الربيع العربي .. و حماية الانتقال الديمقراطي !
1
شكلت الانتفاضة العربية الكبرى التي شهدتها مختلف الاقطار من المغرب إلى المشرق لحظة مفصلية في تاريخ الأمة ، فبعد عقود من الاستبداد و الفساد العصيبين ، و المعاناة من ضنك العيش و الاستكانة إلى ضروب من الظلم الاجتماعي بمختلف أصنافه ، ما أفضى بشاعر فذ إلى أن يتساءل عن " متى يعلنون موت العرب " ، انطلقت الشعوب و بعفوية قل نظيرها عالميا ، محطمة أفق انتظار "أصحاب المعالي و السمو و الفخامة " ، و مكذبة ممتهني التنظيرات السياسوية المتحذلقة . و الواقع أن الشباب العربي الذي ضاقت به جنبات ساحات التحرير و التغيير لخص في أداء نضالي بليغ ، أحلام الشعوب العربية و تطلعاتها نحو الحرية و العدالة و الكرامة الإنسانية ، و كانت الحصيلة إسقاط " زعماء " طغاة عاثوا في البلاد و العباد فسادا ، و إحداث تغييرات نوعية و إصلاحات داخل أنظمة أخرى اتخذت من الحكم الفردي شريعة و منهاجا .. و على الرغم من الدمار المرعب و التنكيل منقطع النظير الذي مارسه "حكامنا " الأشاوس ضد الوطن و المواطنين العزل ، و على رأسهم مجنون سوريا و سفاحها ، يمكن القول إن الشعوب العربية أضحت مدركة أكثر من أي وقت مضى نوعية عصابات القتل المجاني التي طالما تلت على مسامعنا آلافا مؤلفة من الشعارات الداعية إلى الممانعة و التصدي للعدو الخارجي ، و العمل على نشر قيم " الوحدة و التضامن و الأخوة " ! لكن هل تمكنا من جني ثمار تضحيات جسام ؛ تجسدت في آلاف من القتلى و الجرحى و اللاجئين ، و التشقق الداخلي و التوقف شبه تام للفعالية الاقتصادية و عجلة التنمية ؟
2
بتأملنا لبلدان الربيع الديمقراطي سواء التي اطاحت بزعمائها ، أو تلك التي حاولت إنجاز التغيير من داخل النظام نفسه ، نستنتج دون أدنى عناء ، أن مشوار محاربة الفساد و تفكيك البنية التحتية لطاعون الاستبداد طويل و متعب و يستدعي تضحيات جسام ! فبقايا الأنظمة " الساقطة " أبت إلا أن تلعب أوراقها الأخيرة و القذرة ؛ أوراق تعطيل عملية الانتقال الديمقراطي ، و مباشرة العمل الحكومي و لو تطلب ذلك إغراق البلاد و العباد في الدماء و الدمار و الحراب الذي لا يبقي و لا يذر ! لا لشيء إلا لإصرارها على البقاء الأبدي في السلطة و فوق صدور الشعوب المضطهدة و استنزاف مقدراتها ، و معاقبة الجماهير التي صوتت ضدها في الاستحقاقات الديمقراطية و بالآليات المتعارف عليها دوليا ! إن فلول الأنظمة المتهالكة لا تريد أن تعترف بأن رصيدها قد نفذ و انتهى بغير رجعة ، فبعد خمسة أو أربعة عقود من الحكم الفردي و التعاطي الوحشي مع قضايا الشعوب العربية ، انكشفت الحقيقة الساطعة : إن الهيئات السياسية و الهياكل الحزبية و الأهلية في غالبيتها العظمى كانت أذرعا سحرية ل" أصحاب المعالي و الفخامة " عملوا جنبا إلى جنب الحاكمين بأمر الله من أجل هدر الموارد المادية و البشرية ، و الاصطياد في المياه العكرة و البرك المتعفنة .. وفي المقابل نشأت تيارات اجتماعية و سياسية ذات الميول الدينية ، و هي تتطلع إلى إمكانية بناء نموذج مجتمعي آخر ، و ذلك بانتهاج سياسة القرب و الاختلاط بالمواطنين البسطاء و المعذبين في الأرض ، مما جعلها أقرب إلى أفئدة الملايين ، و رغم سنوات الدم و الرصاص و الإقصاء و النبذ ، تمكنت هذه الحركات الإسلامية من الفوز بسهولة أثارت انتباه المراقبين الدوليين على الاحزاب " الوطنية العتيدة " و نهاية الحكاية معروفة : أقام الليبراليون و العلمانيون سرادق البكاء و النحيب و الولولة على الثورة " المغدورة " و الوطن " المختطف " و أخونة الحياة العربية ..
3
و لأن العودة إلى الوراء مستحيلة ، و المصالحة مع أزلام صناع الفساد و الاستبداد غير ممكنة ، فإن الحل الأنسب للخروج من التيه و الانعتاق من شرنقة الضياع المحبط ، هو التعامل الموضوعي و العقلاني مع إحداثيات الواقع الجديد ، و بروح وطنية صادقة ، فعلى الحكومات العربية التي جاء بها الربيع الديمقراطي ، و انتخبتها الشعوب بطواعية و شفافية غير مسبوقة ، أن تقتفي الخط المستقيم نحو تجسيد نسق سياسي ديمقراطي مدني منفتح على المكتسيات ؛ ذات الصلة بالمواثيق و القرارات المتعارف عليها دوليا ، مع الحفاظ الإيجابي على المنظومة القيمية و الحضارية العربية – الإسلامية ، و الانتقال إلى السرعة القصوى نحو أجرأة البرامج الحكومية و ترجمة الوعود و شعارات الحملات الانتخابية على أرض الواقع الملموس ، و الكف عن الشكوى ممن يضع العصي في الدواليب ، و هل كان منتظرا غير ذلك ؟ مع الكف عن التعامل التبسيطي و السطحي مع قضايا الدين ، و الانغماس في تلبية احتياجات المواطنين الفورية على المدى القريب و البسيط ، و على الجانب الآخر يفترض ان تقف التيارات السياسية العلمانية بكل ألوانها أمام مرآة الواقع لتعرف حجمها الحقيقي في " الميركادو " السياسي ، و تمارس نقدا ذاتيا صادقا ستقرئ فيه مواطن ضعفها ، و تجترح حلولا علمية كفيلة بجعلها تعود مجددا إلى إحضان الشعوب العربية لخدمتها و المساهمة في تأطيرها في " الهنا و الآن " ، و ليس في صالونات الفنادق الفاخرة ، و القنوات التلفزيونية التي تعيش خارج سياق التحولات الجذرية للأمة العربية . إننا في أمس الحاجة لكل الاصوات الصادقة و الهادفة إلى صوغ مستقبل أكثر عدلا و كرامة و حرية ! بعيدا عن ذهنية الإقصاء الممنهج ، دون أن ننسى رجال الفكر و الثقافة الذين هم مطالبون أكثر من اي وقت مضى بالإدلاء بتصوراتهم الموضوعية و العقلانية ، إزاء ما يعتمل داخل الخريطة العربية من تحولات سياسية و اجتماعية بالغة الدلالة ، و لعل أهم الادوار التي يتوجب على رجال المعرفة أن يتكفلوا بها ؛ فضح المؤامرات و الدسائس التي ينسجها من لهم مصلحة في تعطيل الانتقال الديمقراطي و إفشاله ، و التأكيد دون هوادة على أولوية التشبث بثوابت الأمة الدينية و الحضارية و الوحدة الجغرافية ، و رفض الميولات الطائفية المدمرة ، و الإصرار على محرقية الخيار الديمقراطي سبيلا وحيدا لدفن الماضي و استشراف الحاضر و الآتي !
الصادق بنعلال – كاتب من المغرب