كم كانوا يوم الجمعة بالتحديد؟ عشرة آلاف، مائة ألف، مليون، مليونان، أربعون مليون مغربي؟ كنا نحسب الأمر جنازة رجل، فترحمنا وقلنا “اللهم اغفر وارحم وأنت خير الراحمين”، لكن الأمر تحول إلى مسيرة سياسية لحشد الأنصار، ولإظهار القدرات التنظيمية، واكتشفنا أن المراد من تأخير الدفن لأكثر من ثلاثين ساعة، لم يكن إكرام الميت بوضعه تحت التراب بأسرع وقت ممكن مثلما يوصينا بذلك ديننا الحنيف (الإسلام دون سياسة)، لكن كان الأمر مقصودا من أجل إتاحة الفرصة للعدد العديد لكي يأتي من كل مكان، لكي تقول “العدل والإحسان” إنها الأقوى والأكبر والأكثر تنظيما في الوطن.
طيب يا سيدي، سياسة سياسة، لنتحدث بلغة السياسة عن جنازة لم تكن عادية على الإطلاق. من قالوا أولا إنها ستكون أضخم جنازة سياسية في تاريخ المغرب بعد جنازة الحسن الثاني، جاهلون أولا، وكاذبون ثانيا، ومدعون من الدرجة الأولى ثالثا وبعد كل الأشياء.
جنازة عبد الرحيم بوعبيد _لمن كان يتابع السياسة قبل مجيء الفيسبوك واليوتوب وبقية الوسائط_ هي الأضخم بعد جنازة الراحل الحسن الثاني، ولا مقارنة بين الرجلين معا وبين عبد السلام ياسين، فالثلاثة بين أيدي خالقهم وهو أعلم بكل واحد منهم، لكن بحساب العقل والسياسة _ولسنا نحن من اختار تحويل جنازة وهي مناسبة إنسانية إلى لحظة سياسية لذلك لا اعتراض_ الرجلان في مقام وياسين في مقام ثان.
وقد سألت حكيم بنشماش يوم الجمعة ونحن نستضيفه في “قفص الاتهام”، حين سمعته يتحدث عن رحيل ياسين على أنه “حدث جلل” عن النفاق السياسي الذي يجتاح الطبقة السياسية المغربية بعد الموت، حيث يتحول الشخص الذي كانت تسبه وتصفه بالخرق وبأوصاف أخرى إلى شخص محترم بل وغاية في الاحترام، فقط لأنه مات.
معذرة، لكنني أقيم الفرق جيدا بين احترام الموتى وتقدير حرمتهم، وبين فكرهم أو سياستهم أو ما كانوا يقترفونه وهم على قيد الحياة. لذلك بالنسبة لي سيبقى ياسين _حيا كان أم ميتا_ الرجل الذي كان يؤمن كثيرا بالخرافات، والذي كان يفرض على مريديه أن ينادوه بـ”سيدي عبد السلام”، والذي غير كنيته الأمازيغية الحيحي إلى كنية عربية لكي ينتسب لأهل البيت وإن لم يكن منهم.
سيبقى بالنسبة لي هو تلك السنوات الأولى من التسعينيات ونحن في الجامعة نشاهد طلبة العدل والإحسان يضربون الطلبة “من الطرف حتى للطرف” بناء على توجيهات الأستاذ المرشد، ونصائح الأستاذ المرشد، وطلبات الأستاذ المرشد، وأوامر الأستاذ المرشد.
لذلك عندما أسمع الإخوة المتباكين يتحدثون عن رفض ياسين للعنف وعن تشجيعه للسلم والتدافع السلمي في السياسة، أسأل نفسي: “واش داويين على نفس الشخص؟”، أم ترانا نتحدث عن الموت الذي يجب ماقبله، ويجعل النفاق السياسي يتحدث عوض أن يتحدث التقييم الموضوعي.
جواب بنشماش في حلقة الجمعة الماضية من “القفص” كان ذكيا وهو يشير إلى أن صراعنا مع هذا النفاق السياسي لن ينتهي اليوم، بل هو معركة طويلة الأمد يلزمها الشيء الكثير من الشجاعة، لكي نتخلص من أثارها، ولكي نجد لنا سبيلا للحديث دونما تفكير في قراءة الآخرين لأقوالنا وأفعالنا خصوصا إذا كنا مؤمنين فعلا بهاته الأقوال وهاته الأفعال.
في هذا الصدد، وفي نفس القراءة التي تفرض نفسها لحدث خروج الأتباع من كل مكان لتشييع الشيخ إلى المثوى الأخير، لا بد من الوقوف عند نقطة تشابه مثيرة للغاية بين مايقع في مصر من تجييش وبين ماوقع ليلة الجنازة في كل المدن والقرى المغربية التي توجد فيها العدل والإحسان. الجماعة راهنت بكل قواها لكي تظهر الرباط تحت سيطرتها، ولكي تؤكد لمن يسيرون البلد اليوم وهم يعتقدون أن الإسلاميين يحكمون المغرب والسلام إنهم واهمون.
المشكلة هي أن الرسالة ووجهت برسالة أخرى، والجميع التقط أن ياسين معارض الحسن الثاني وناصح محمد السادس قد وضع أثناء الصلاة عليه قرب المشور الملكي بخطوات معدودة، ودفن في مقبرة الشهداء قرب كل علامات المشهد السياسي المغربي الرسمي, وحرست جنازته وأنصاره قوات أمن عمومية تابعة لمن ظل يقول باستمرار إنه يعارضهم.
الرسالة وصلت بامتياز إلى كل مكان في العالم: المغرب أكبر من أن يخشى جنازة رجل واحد، أو أن يخاف من تحولها إلى مظاهرات غضب أو مسيرات دفاع عنه أو تنديد بخصومه.
ونستطيع أن نقولها باطمئنان اليوم: ربما نحن البلد الوحيد في المنطقة الذي يعطي لنفسه هذا الترف الهام فعلا: أن تخرج العاصمة كلها فتجد نفسها صبيحة الجمعة محاطة من كل مكان بأتباع جماعة يقال عنها إنها المعارض الأول، وأن تنساب الجموع بهدوء باكية شيخها, وأن تعود إلى مدنها وقراها دونما أدنى إشكال في الختام.
بلغة الرسائل التي تحبذها الجماعة، نستطيع القول إن النتيجة لم تكن لصالحها، لكن لا بأس، لنتابع المباراة وبعدها لكل حادث حديث.