متفق على طول الخط مع الرأي الذي يقول بأن دول الغرب و بعض دول شرق آسيا بمؤسساتها العلمية و مراكز بحوثها الكثيرة تنفق الكثير من اجل البحث العلمي و التقدم التكنولوجي،علماء مجتهدون و متيقظون و أذكياء لكن هل هم لطفاء كلهم و هل يتصفون بخصال التواضع وحب الخير .و أتساءل هل مجرد الاتصاف بصفة عالم غربي يعطيه الحصانة الأخلاقية و الأدبية حتى نبجله و نعطيه مكانة أرقى من مكانة من يستحقونها حقا؟أرى أن التخلف في العالم لا يفرق بين مسلم و مسيحي أو بوذي و صابئي أو ذاك الذي لا يعترف بأي دين،كذلك نرى من يركز على علاقة العلم بأي معتقد ديني أو طائفي أو مذهبي و إقحام العلم لتبرير وجهة نظر تمثل مواقف سلبية من التدين فالعلم له علاقة أكيدة بالبحث و الاجتهاد في اكتشاف النظريات و التمحيص في تطبيقاتها.إذن عندما تكون الدولة متقدمة تكنولوجيا و اقتصاديا ينسحب نجاحها على جميع مواطنيها بغض النظر على انتماءاتهم الدينية أو الإيديولوجية،في الجهة الأخرى تخلف الدولة على مستويات عدة يشمل كل المجتمع و لا يدعي احد أن سبب تخلفها تيار ديني أو أيديولوجية ما.النجاح يساهم فيه الجميع و الفشل أيضا مسؤولية الكل.
ننحني احتراما لرأي لا يحمل بين طياته بذور التعصب و التطرف و الإقصاء، و نبجل كل من كانت صفاته العلم الغزير و التواضع الكبير بصرف النظر عن ديانته و مذهبه و بصرف النظر عن طائفته أو عرقه،عندما نعود إلى علاقة الدين بالسياسة و الدين بالعلم نجدهم في علاقة جدلية لا يمكننا الفصل بينها أبدا،وعندما نركز النظر في تجارب الشعوب عبر تاريخها نجد أن علاقة ما هو سياسي و ما هو ديني تؤثر بكل ما يتعلق بالتقدم التكنولوجي و ما يشيع من أخلاقيات و سلوكيات داخل المجتمع إن سلبا او إيجابا حسب المناخ السياسي و الاقتصادي السائد.
إن الدعوات الفكرية المتعصبة والتحريضية تشجع الفكر المتطرف و تخدم الفوضى و عدم الاستقرار النفسي و السياسي و ما يستتبعه من انهيارات اقتصادية و إنتاجية،فالانتاجات الفكرية و العلمية تكثر نتيجة استقرار سياسي و حرية فكرية مسؤولة بدون إقصاء أو استهتار بمقومات تاريخية و ثقافية داخل المجتمع في اتجاه التطوير و التحدبث.نسمع الكثير يعزف على نغمة التخلف و يسوق عدة أسباب تخدم نظرته و أجندته السياسية و هذا لا يخدم البحث الأصيل ومفهوم التنوير الذي يحتاجه أبناء الوطن،و من ضمن الأسباب في نظر هذا الفريق هو أن تدعيم الشرعية للدين الإسلامي يتم انطلاقا من تقديم تأويلات لآيات قرآنية بعينها اعتمادا على اكتشافات علمية غربية.
هنا يمكننا أن نرد على هذا الرأي في مطلقه بدون ربطه بسياقه السياسي و الفكري الذي جاء فيه، فشرعية أي دين لا ترتبط أبدا بتأويلات بشرية بل شرعيته مستمدة من مصدره المطلق و لا يحتاج إلى تبرير وجوده و تأثيره في الوجود البشري منذ القديم من منطلق تطابق شريعته و تعليماته مع ما وصلت إليه اجتهادات بشرية في مجال التجربة العلمية. إذ أن هذه المعرفة التي يحصل عليها العَالِم في عالم المادة تتوقف على منهجيته المعرفية المرتبطة بالحواس، وهي محكومة بالزمان والمكان في الإطار الممكن، و رأيي هو أن أولائك الذين يبحثون في مدى ارتباط تلك الاكتشافات العلمية في مختلف المجالات مع آيات قرآنية نابع من التدليل على أن اجتهادات عالم الشهادة المتمثل في علماء يبحثون في فروع العلم المتنوعة تظل محدودة و أن عالم الغيب المتمثل في الإطار العام للكون و الإنسان فسيولوجيا و نفسيا يبقى مجالا لم يبلغ العلم في اكتشافه إلا القليل. و مع ذلك لنا مآخذ على هذا المنحى و يبقى هذا أيضا في مجال حرية البحث و الفكر ،و للمناوئين لهذا الاتجاه الحرية في تقديم وجهات نظر غير تحريضية و لا تدخل في باب تسييس ما هو علمي.
أسوق هنا عبارات الحسن البصري تلافيا لأي حكم مسبق لا يخدم الحقيقة العلمية حيث قال: "العَالِمُ على غير علم كالسالك على غير طريق، والعامل على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فاطلبوا العلم طلبا لا يضر العبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوه" أما القول أن الإيمان بالله يتناقض مع النظر فيما اكتشفه العلماء من ظواهر طبيعية فهو تجني على العلم أكثر بفصله عن سياقه، فهي اكتشافات لظواهر موجودة أصلا سبقت وجود العَالِم نفسه.
لا يمكن أبدا تقزيم الدين و حصره في شخص من يفتقر إلى الكياسة و الرؤية الشمولية و مبادئ الحرية و الفكر المستنير،العبادة في الإسلام لا تستقيم بدون إعمال مبادئ علمية تتلخص على سبيل المثال في معرفة بمواقيت الصلاة و الحج و الغروب و الشروق إلى غير ذلك، و هي ناتجة عن اجتهادات في علم الفلك قام بها علماء كانوا أصلا يقيمون الصلاة و يبحثون في عوامل تغير الأحوال الجوية و يقومون بالبحث عما يؤهل مجتمعهم إلى الرقي و لنا في علماء أجلاء أعطوا المثال في السلوك الجيد في التعامل و العلم الغزير و لم يكونوا يتعصبون إلى مذهب معين أو دين غير دينهم فهمهم الوحيد هو البحث عن الحقيقة العلمية.
فالتدين شيء أصيل في نفس الإنسان أيا كانت ميولاته و ثقافته و مكان وجوده و لا يمكن فصل الدين عن المنظومة الاجتماعية و السياسية و الثقافية التي تؤسس لوجوده،حتى شكل الدولة لم يتدخل الإسلام في فرضه بحيث أعطى حرية تشكيلها للأمة حسب ظروفها جغرافيا و نفسيا و ثقافيا و سياسيا، و هذا ما أعطى للوجود الإنساني معنى الاختلاف و التكامل بدل تحنيطه في قالب واحد يضرب حرية الإبداع في مجال التسيير و تدبير مجالات العيش.و حتى لا يكون التعميم مجاني يطمس الحقيقة فتخلف الأمة الإسلامية له مقدمات يتكاثف فيها ما هو داخلي و يغذيها ما هو خارجي، و ليس فقط شرط وجود أموال نفط أو غيرها يمكنها أن تنتج بيئة متقدمة و تحترم العلم و العلماء فشروط التقدم العلمي ليست متعلقة بقرار داخلي فقط بل لها إكراهات كثيرة تتعلق في مضمونها بإشاعة الإرهاب الفكري من تيارات لها الربح و المنفعة في التخويف من كل ما يروجه الغرب و هذه فوبيا غير مبررة.
ثمة اتفاق واضح على الاختلاف بين طبيعة العلم و الدين من حيث وسيلة المعرفة و المصدر أيضا،والملاحظة الأساسية هي في مجال الاختبارات داخل التجربة التاريخية للمجتمع سواء غربي أو شرقي بدون تجاهل لأصول الثقافة التي ينتمون إليها.و بالعودة إلى علماء مسلمون امتحنوا في حياتهم المهنية و الشخصية نقف عند تجربة ابن رشد في الأندلس فمأساته لم يكن سببها سوى انخراطه في مجال السياسة بانتصاره لأخ الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف، الشيء الذي استغله منافسوه ليضربوا علاقته بالخليفة ففلسفة ابن رشد نبهت إلى التسلط السياسي والاضطهاد الاجتماعي و ذلك عند تلخيصه لجمهورية أفلاطون ليتم نفيه عن مدينته و إحراق مؤلفاته فالسبب لا علاقة له ببحوثه العقلية في تعاطيه مع النصوص الدينية فهذا مجرد مبرر انطلق منه خصومه السياسيون من اجل تنحيته عن موقعه كمقرب من الخليفة الموحدي.
و نحن هنا في انتظار خطاب اقل سطحية من بعض المتقدمين فكريا من اجل قيادة التقدم في خطى تستند إلى فهم الواقع النوعي الخاص بتاريخ أمتنا،دون ما حاجة إلى إرباك المشهد السياسي و الاجتماعي و الفكري بنظريات لا يمكن تطبيقها بشكل مبسط. فالاعتراف بالحقائق و لو أنها مزعجة في بعض الأوقات يمكن تحملها من اجل الاستثمار في الرأسمال الثقافي و التاريخي للأمة لكن شرط إلا تكون مبنية على رؤى إقصائية و أحكام جاهزة تضرب على وتر واحد لتخلق نشازا لا يطرب الأذن الذواقة.