كأن الصمود في وجه المخزن ومعارضته هي المبدأ والفكرة والغاية بالنسبة إلى نوع من اليسار في المغرب، لا يعنيهم شيء آخر ولايلعبون أي دور مادام المخزن موجودا، وحين توصلوا بخبر وفاة الشيخ عبد السلام ياسين، كانوا كلهم في صفه، واعتبروه واحدا منهم، لأن الراحل يدخل أيضا في تلك الخانة، أي المعارضة إلى الأبد، وإما أنا أو لا أحد غيري.
كلهم أجمعوا على نقطة واحدة، وكلهم قالوا:"على الأقل كان صلبا ومقاوما ووقف في وجه الطاغوت"، أما ما كان يدعو إليه الراحل وجماعته فهي تفاصيل ولا تستحق الذكر، لأنهم يؤمنون فعلا بأن عدو عدوي هو صديقي.
ما يفعله هذا النوع من اليسار في عائلته الكبيرة والاتهامات التي يكيلها لكل من يختلف معه والذي كان وإلى غاية الأمس رفيقا له، يقابله بإطراء ومديح لجماعة سرية تقدس شخصا، هي أقرب إلى أخوية منها إلى حزب سياسي، عدوة لكل القيم التي يؤمن بها اليسار، وعدوة للديمقراطية وللحرية وللتعددية، وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على السلطة، بعد أن يؤمن أكبر قدر من المغاربة بكرامات الشيخ.
ربما كان من الأفضل لهذا النوع من اليسار أن يلتحق بالجماعة، وأن يحضر حلقاتها، ويتبرك بخوارقها، مادام عاجزا عن إغراء الجماهير بأفكاره، وقد يجد داخلها ما يفقده في الشارع، وهي تلك الجموع الغفيرة من الناس التي تقدس رجلا، والتي كانت تنتظر اللحظة التي سيصبح فيها خليفة، إنه لاهوت التحرير في نسخته المغربية الهجينة، والتي تجعل هذا اليسار يستنجد بالخرافة للتغطية عن ضعفه ولتقوية فراغه، والمهم هو أن تقول لا للمخزن، وأن تسجن الزمن السياسي المغربي في هذا الموقف، وتحبس الوقت والتغيير، وتقاطع الانتخابات وتكفر من يشارك فيها، في انتظار ساعة الحسم.
يحب هذا النوع من اليسار أن يكون بطلا، بينما السياسة ليست بطولة، وليست عزلة عن الواقع، إنها تنسيب وعمل يومي في الواقع وإمكاناته التي يتيحها، والمخزن رغم هلاميته هو جزء من هذا الواقع، وفاعل أساسي فيه، وهو زيادة على ذلك منسجم مع نفسه، وواقعي وبرغماتي ويشتغل حسب ميزان القوى وحسب الظروف، بينما لا يجد ذلك اليسار من حل إلا الارتماء في أحضان من يرفض ذلك الواقع ويتنكر له بتخيل واقع غير موجود، واقع مفارق يتحقق في الرؤى والأحلام، وفي العمل السري، الذي يحن إليه كل هؤلاء الذين ينظرون إلى المغرب نظرة مانوية، تفترض القضاء على طرف ليعيش طرف آخر ويحكم.
إن كل ما تحقق في المغرب من داخل المؤسسات، وكل القوى التي عملت وناضلت وتعاملت مع المخزن، لا تستحق أي اعتبار في نظر المغرمين بكلمة"لا"، والذين يرفضون كل شيء وينعمون في نفس الوقت بترف هذا الموقف الذي يعفيهم من السؤال عن دورهم، لا يعجبهم إلا الذي يشاركهم هذه الكلمة، مهما كان أصوليا ومهما كان منعزلا وغريبا وغامضا ومبهما، والنضال والبطولة هي أن لا يقولوا"نعم"، والحال أن السياسة تمارس بين"نعم"و"لا"، وتلعب في المسافة بينهما، وليس في الخلود إلى راحة الرفض والقبول، وانتظار ما لن يأتي أبدا، وحتى لو أتى، فإنه يكون على شكل كارثة وخراب.
إنهم يقدرون الشيخ، لأنه كان يقول على الأقل لا، أما ماذا تعني لا هذه، فهذه أمور لا تشغل بالهم، ولا يسألون عنها أبدا، لأنها تزعج راحتهم وطمأنينتهم في الصمود والنضال ورفع الشعارات.