كأن المغرب فارغ، لا يسكنه أي حزب ديمقراطي وحداثي، ولا توجد مؤسسة إعلامية تعبر صراحة عن هذا الانتماء، هناك أفراد فقط، يشبهون الدونكيشوط، ويحاربون لوحدهم دون سند، عراة أمام مجتمع محافظ يرفضهم وأمام آلة منظمة تسيء إلى سمعتهم بكل الأسلحة وتكيل لهم التهم الجاهزة،
وبمقارنة بسيطة مع ما يحدث في مصر، يبدو أن الذي يقف اليوم أما تغول الإخوان والسلفيين، هم المثقفون والمبدعون وعدد كبير من القنوات والجرائد والأحزاب والجمعيات، التي تقف حجر عثرة أمام رغبة الإسلاميين في سرقة المجتمع المصري، بينما لا شيء عندنا نحن في المغرب، فالمثقفون يكتبون كلاما غير مفهوم، والأحزاب التي تقول إنها حداثية، أصبحت تنافس العدالة والتنمية في رجعيته، وتكتب الافتتاحيات المحذرة من"سفينة الإجهاض"، كما فعلت الاتحاد الاشتراكي، أو ذلك الخبر الذي نشرته نفس الجريدة والمندد بصور "حسناوات بلجيكا".
لا توجد إطلاقا أي جهة يعول عليها في الدفاع عن القيم الكونية وعن مغرب منفتح، لا أثر لمن يمكنه أن يجمع هذه الأقلية الهائلة من المغاربة، كأن الحداثة أصبحت لعنة ويخافون منها، لا الاتحاد الاشتراكي ولا الأصالة والمعاصرة ولا التقدم والاشتراكية ولا أحزاب اليسار الصغيرة ولا من يدعي الليبرالية مستعدون للعب هذا الدور، الذي تلعبه اليوم الأحزاب المصرية، بل حتى 20 فبراير، رأت في لحظة غرور أن العدل والإحسان أفضل لها من موقف واضح وصريح، واختارت الكم لأنه مربح ويملأ الشوارع، والجميع يقول: لا، لا، أنا بريء، أنا لست حداثيا، ولا أريد أن أتهم بهذه التهمة.
لا يعقل أن بلدا مثل المغرب لا يتوفر على منبر إعلامي واحد يرفع شعار العقلانية والحداثة أو حزب ذي توجه سياسي واضح، يجمع بين صفوفه مثل تلك النخبة التي نراها الآن في مصر، التي كنا نعتقد واهمين أننا متقدمون عليها سياسيا، الكل هنا يريد أن يستفيد من نزعة المحافظة المهيمنة، وحتى الذين كتبوا بيان من أجل وحدة اليسار، نادوا باستغلال الدين وتخلف المجتمع، كي لا يبقى ذلك حكرا على الإسلاميين، لأنهم اكتشفوا أن الرجعية مربحة وبها فقط تصل المكونات السياسية إلى السلطة في هذا العصر.
أحيانا يبدو كاتب مثل أحمد عصيد، كما لو أنه يصارع لوحده ويحارب طواحين الهواء، إنه أمر مفزع حقا، أن لا نجد إلا قلما واحدا ويكتب بشكل منتظم، يبدي إصرارا بطوليا على إبداء رأيه والجهر بحداثته وعلمانيته دون لف أو دوران، بشكل مبدئي وواضح، مع إعلاء من شأن الحرية والديمقراطية ورفض للاستبداد في نفس الوقت، حيث يبقى عصيد وأمثاله، مجرد أفراد، لا مؤسسات تتبناهم ولا منظومة تجمعهم، إنهم على الهامش، ويعبرون عن مواقفهم ضدا على أحزاب وجمعيات منظمة، تواجه هؤلاء الأفراد بالسلطة التي تتوفر عليها وبمنابرها المتعددة في الأنترنت وبجيوشها التي تأتمر بأمرها.
لقد ظهر حداثيون جدد في المغرب، كانوا أمس محافظين ورجعيين، يشتغلون اليوم ضد بنكيران لأنهم يعتقدون أن هذا هو الدور المطلوب منهم، كما تحول "ديمقراطيون" إلى صف الإسلاميين، لأنهم يحصلون على أرباح من وراء ذلك، لأن الرياح تسير قي اتجاههم، ولأن ذلك يأتيهم بالقراء والمنافع، بينما يعاني المغرب من وجود جهة أو مؤسسة تمثل هذا التوجه في المجتمع وتتوفر على مصداقية ومستعدة للدفاع عن قناعاتها واستقطاب كل هذا الشتات والأصوات الحرة، التي تؤمن فعلا بمواقفها وتدافع عن الحرية وترفض الانصياع والرضوخ لهذا الصمت الرهيب وتناضل كي لا تبقى الساحة فارغة ليسيطر عليها صوت واحد، وليسود الظلام والمحافظة في مجتمع يعود إلى الخلف، بعمل منهج ومنظم تدفع به أحزاب وجمعيات تشتغل على قدم وساق لإلغاء التعدد والانفتاح، وحصر المغرب في نموذج واحد منغلق.
ما يحدث اليوم في المغرب أن أفرادا غير مستعدين للتفريط في حريتهم هم وحدهم من يقاومون هذا المد، أفراد لا يدعمهم أحد ويواجهون لوحدهم حملات الإساءة، ويتقدمهم فنانون ومبدعون، يقولون كلمتهم ولا يخافون من الوحش الذي يفتح فمه لابتلاعهم، بمجرد ظهورهم في المشهد، أما الأحزاب والمثقفون الجهابذة والأقلام التي صدعت رؤوسنا لعقود، فهي الآن مستقيلة وتكتب في الإمارات والدوحة، إنها مهاجرة وتأتي إلى المغرب، مع اقتراب موعد اتحاد الكتاب، اتحاد الكتاب الذي يبحث بشراسة عن الدعم والشراكات، ولا يعنيه أبدا ما يقع، إنه ليس من هذا البلد، يقيم معنا، لكن قلبه وروحه في مكان آخر.
حميد زيد