تجار وحرفيون شباب متعلمون، لم تحصنهم ثقافتهم وتكوينهم الدراسي، من طرق باب «الفقهاء» والسحرة، طلبا لنماء الرزق، عبر الاستعانة بـتمائم خاصة تواضع مستعملوها على أنها تجلب الزبائن وتنمي التجارة وتمنع عنها البوار، في تناقض صارخ بين ما تشبع به هؤلاء من قيم اكتسبوها بالتعليم، وما يمارسونه على أرض الواقع من تكريس لظواهر الدجل والشعوذة والتطبيع معها.
«زلافات» من الحليب، والتمر توزع هنا وهناك، على إيقاع «الدقة المراكشية»، بعض المارة يستوقفهم المنظر، فيدعون إلى ارتشاف الحليب وقضم تمرة أو تمرتين على سبيل «الباروك». لحسن يعول على المتجر الجديد أن يكون فأل خير عليه، وبابا آخر من أبواب الرزق بعدما استطاع الخروج من جلباب أبيه وخلق مورد رزق خاص به، عبارة عن مطعم للوجبات السريعة.
كنديرو كيما الناس!
«درت كلشي لي قلتي ليا بالحرف!» يًسر لحسن لأخيه الأكبر محمد، بعد أن بالغ في توصيته بتطبيق ما أمره به «الشريف» بالحرف، إن هو أراد أن يتهافت على مطعمه الزبناء. معطى حاول لحسن التطبيع معه وتقبله، رغم صعوبة تصديقه، ولم يشفع له تكوينه الجامعي في منع أخيه من إجباره على الاستعانة بخدمات «الفقيه»، بعدما أقنعه بضرورة وضع تمائم ورش سوائل ستكون كافية لجلب أكبر عدد من الزبائن إلى مطعمه، وتحقق له بذلك الربح السريع. لم يكن من السهل إقناع الأخ الأصغر بجدوى مجهود «الفقيه»، إلا بعد أن برهن له على نجاعة تمائم جلب الزبناء التي لا يستطيع إنجازها إلا «فقيه ناجم» يستطيع تحويل الماء إلى جليد!
صارح محمد أخاه أن السبب وراء تهافت الزبائن على محل بيع العقاقير الخاص به هو وصفة من الوصفات التي طبقها لحسن بإيعاز من أخيه:« هاد شي عادي إلا بغيتي تبيع وتشري، كنديرو كما كدير كاع الناس! توكل على الله!»، كلمات الأخ الأكبر كانت كافية لزرع الثقة والإطمئنان في قلب لحسن لمسايرة أخيه، محركه الأساسي في كل هذا خوفه من الفشل في أول مشروع خاص به.
قصدا أحد بيوت الفقهاء بالحي المحمدي، وقام بتزويدهما بـ«حجابات الجلب» وهي تمائم تكتب بأقلام مصنوعة من القصب مدادها زعفران منقوع في الماء، طلب منهما إذابة مدادها في الحليب، ونقعها في الماء ورشها في كل شبر في المطعم، وفي مدخل المحل. كما زودهما الفقيه يحكي لحسن بتمائم أخرى أمرهما بتعليقها وإخفائها في أكسسوارات المحل، حتى تأتي أكلها وتعينهم على مضاعفة الأرباح ويحج إلى المطعم الزبناء ويكثر معدل ترددهم.
بعد أن جلبا «البركة» ، حاول لحسن تطبيق تعليمات «الفقيه» بمساعدة أخيه، سيما أن له تجربة طويلة في هذا الباب، وتحفل ذاكرة هاتفه وحافظته بالعديد من أرقام وبطاقات الزيارة الخاصة «بالفقهاء». قاما برش منقوع التمائم على أرضية المطعم وكراسيه، قبل الافتتاح، وتعليق التمائم في أماكن لا تخطر على بال أحد، آخر خطوة كانت، قبل الافتتاح حيث نقعا تمائم في الحليب المقدم للزبائن، كما أمرهم بذلك الفقيه، حتى يتعودوا على المطعم ويكونوا أول زبنائه. هذه الوصفات حسب «الفقيه»، ستكون إيذانا برواج استثنائي في المطعم، خاصة أن الوصفة مجربة، بل أغلب أفراد العائلة من التجار، يلجؤون إلى هذه الخدمات الاستثنائية لمضاعفة أرباحهم وإنعاش تجارتهم.
بعد أن مر على افتتاح المطعم، أزيد من ثلاثة أسابيع، بدأ منسوب الزبائن شيئا ما في ارتفاع، لكنه لم يرق بعد إلى ماكان ينتظره من تزاحم وتدافع حول مطعمه، تواكب حجم المجهودات ومبلغ خدمات الفقيه، التي وصلت إلى 3000 درهم، دون أن تؤتي ما كان مرجوا منها. هذا المعطى جعل لحسن يحاول إنعاش ذاكرته، واستحضار إحدى النظريات التي طالما شنفه بها أستاذ التواصل والتسويق بالجامعة، تتحدث عن قوة البيع، ودور الإشهار في هذه المعادلة باعتباره أحد الوسائل المهمة للتسويق، الشيء الذي جعله يطبع لوحات إشهارية وملصقات وبطاقات زيارة أملا في تسويق مطعمه والتعريف به.
كتلة من «الحروزة» بوكالة لتأجير السيارات!
«آش هاد الشي؟؟ عنداك تقيسو بإيديك!» قال بانفعال، كما لو عثر على جثة، وعلامات الاستغراب بادية على وجهه. وجد حميد رفقة بوشعيب كتلة من «الحروزة» مخبأة بعناية بقاعدة تمثال من البرونز بواجهة وكالة لتأجير السيارات وسط المدينة في صيف سنة 2010.
استبدت الحيرة بالمستخدمين، ولم يعرفا كيفية التعامل مع الأمر، سيما بعد أن لمحا خطوطا متعرجة وكتابة غير مفهومة، وجداول تحتوي أرقاما هندية، بعد أن استطاع بوشعيب فك هذه التمائم المغلقة بإحكام باللصاق، ونظرات الرعب بادية على وجه حميد كما لو كان يتوقع انفجارها في وجهه، يحكي بوشعيب والابتسامة لا تكاد تفارق محياه.
حاول المستخدمان البحث عن طريقة للتخلص من كمية هذه التمائم المخيفة المنظر، لكن حميد لم يشاطره الرأي وفضلا الاستشارة مع رب عملهما وإطلاعه على الأمر. دخلا في موجة من التردد، قبل أن يستقر الأمر على إخباره عندما يبدو في مزاج جيد، ويستطيع تقبل هذا الخبر. فخبر مثل هذا لا يستطيع أحد توقع حجم ردة فعل صاحبه، ولا انعكاساته عليه، سيما أنه مصاب بالسكري رغم سنه الذي لم يتجاوز الرابعة والثلاثين.
بعد تردد دام يومين، قرر المستخدمان إخبار «الباطرون»، بما وجداه، كانت ردة فعله غير متوقعة:«شكون لي قاليك قربو ليه؟ واش عرفتو آش درتو؟»، وشرع في توبيخ المستخدمين، «عرفتي هداك الكتاب بشحال طالع عليا؟؟» وهو يحيل على الأموال التي أغدقها على «الفقيه»، لقاء «كتاب القبول وتيسير الرزق» الذي خطه له، والتي وصلت إلى 7000 درهم!، حتى تنتعش وكالته، ويكثر زبناء سياراته ويتمكن من تسديد ديونه لشركات السيارات.
«دابا فين درتوه؟ أويلي آ عباد الله واش كاين لي كيلوح النعمة؟؟»، بتذمر حاول «الباطرون» استرجاع «حروزته الثمينة»، حيث مده المستخدمان بها، وانصرف على عجل نحو وجهة مجهولة، عاد على إثرها بعد ثلاثة ساعات كما يحكي بوشعيب، بتمائم أخرى شبيهة بالتي اكتشفاها، وقام بتعليق تميمتين وراء لوحة تشكيلية تٌبثت قرب مدخل الوكالة، وأخرى بالتمثال البرونزي، قبل أن يطلب منهما عدم الاقتراب منها أو تحريكها من مكانها قائلا:«خليو هاد البركة هنا، تاحد ما يقرب ليها، واش بغيتونا نتشمشو تا نسدو؟!» قبل أن يقوم بتعداد مناقبها وفعاليتها في جلب الزبائن وتحقيق الرواج داخل وكالته، بثقة وصلت حد الإيمان.
أنس بن الضيف