رغم أنني لم أزر مصر يوما، فإني أشم رائحتها، وكلما ذكر اسمها أشم عبقا خاصا، كأني أعرفها حارة حارة، وكأني ولدت فيها، وهي حالة لا تحدث لي مع أي مكان آخر، بل حتى فقرها وذكاء المصريين في اللعب به وتطويعه يجعلني أحب هذا الفقر وأستلذه وأتشممه.
ربما لا يعرف الإخوان والسلفيون مصر هذه، وربما لا يشعرون بنفس الشعور الذي نشعر به نحن الغرباء، نحن الذين لا ننتمي لهذا البلد، لكننا نحبه، وربما لا يشمون تلك الرائحة، التي سكنتنا بفعل الأفلام والغناء والأدب، ويريدون الآن محوها، كي نستنشق مصر أخرى، لا نعرفها ولا نحسها ولم نسمع بها.
ما يحدث الآن في مصر أكبر من معركة دستور، لأن هناك من يسعى إلى تغيير رائحة مصر، وإلى تحويلها إلى عطانة، وإلى صناعة إنسان مصري لا يوجد في الواقع، إنسان يتنكر إلى ثقافته وهويته وتاريخه، والأخطر من الانتخابات والاستفتاء والدستور هو أن تغيب تلك الرائحة وأن ينمسخ المجتمع المصري، ويفقد طعمه وحلاوته، ويتحول إلى مجتمع متجهم، ومنغلق على نفسه.
نحن الغرباء نعرف ربما مصر ونقدرها أكثر مما يعرفها مرسي والسلفيون، وتعيش منذ زمن في دواخلنا دون أن نضطر لزيارتها، لقد كانت دائما تأتي إلينا مثل حلم جميل، وتسكن في عقولنا وقلوبنا، وهناك الآن من يريد أن يمنع عنا ذلك العبق وأن ننسى مصر التي في البال.
ونحن أيضا سلفيون مصريون، لأننا لا نعرف سلفا صالحا في مصر أكثر من جورج حنين، وجويس منصور، واليوناني كفافيس، ولا نعرف إلا رمسيس يونان ولويس عوض وأندري شديد، ونجيب محفوظ وإبراهيم أصلان، ونعرف غنج سعاد حسني المدوخ وصوت داليدا الآسر وهي تغني حلوة يابلدي، ونعرف سيد درويش وتحية كاريوكا، وكل السلف الرائع الذي يريد الإخوان والسلفيون أن يرغمونا على نسيانهم، ونسيان لكنة عاملة الفندق اليونانية في البانسيون، واليهودي المصري، والإيطاليين والأرمن والأتراك، وننسى اختلاط الثقافات والأجناس في الإسكندرية.
الإخوان والسلفيون لا تعنيهم هذه الرائحة، لأنها حريفة وتؤذيهم، ويسعون إلى استيراد مصر أخرى غريبة عن المصريين، وإذا كانت السلفية تعني الحنين إلى الماضي، فلا أجمل من أن يحن المصريين إلى أفلامهم الأبيض والأسود، وإلى تعايش الأديان والثقافات في مدنهم الكبيرة، وإلى ليلى ومراد وفريد الأطرش وأسماهان وإلى الأرستقراطي المصري الذي حرمتنا منه الديكتاتورية الناصرية ولم يعد هو الآخر إلا ذكرى جميلة في الأفلام والروايات.
حتى في تفاهة الإبداع المصري هناك لذة ومتعة، إذ لا شيء يعوض فيلما لإسماعيل ياسين في لحظة ملل وضجر، بأن تستلقي وتسلم نفسك لمتعة سهلة لا تتطلب أي جهد، إلا أن هذه الأشياء صارت حراما الآن، وأصبح التفكير في مصر ناهد شريف وإغراء هند رستم مضادا للثورة وبلطجة وذوقا خاصا بالفلول.
لكن هل يعرف مرسي تاريخ بلاده، وهل يعرف السلفيون شاعرا كبيرا اسمه جورج حنين، وهل يعرفون أننا تعلمنا من هؤلاء السلف معنى الحرية وأننا أحببنا مصر لأنها منحتنا الثقافة والفن والإبداع، وأثرت علينا كما لم تفعل بلاد أخرى، حتى أصبحنا نعيش فيها ونحن هنا، ونشم رائحتها كلما ذكر اسمها، كما لو أنها تمارس علينا سحرا خاصا.
اسألوا مرسي رجاء واسألوا السلفيين، وتأكدوا أنهم لا يملكون أي جواب، لأنهم لا يعرفون ولا يقدرون عظمة مصر وروعة الإنسان المصري وعبقريته وثقافته، ولأنهم يجهلون مصر فهم جادون في قلبها والإتيان بمصر أخرى، مظلمة وعنصرية ومتنكرة لتاريخها وتعددها ومبدعيها، وكل من يدعي أنه يحب مصر وتتملكه نزعة حنين إلى الماضي، فليسترجع تاريخ مصر القريب، وليسترجع مصر الحقيقية بغناها وحريتها وليبراليتها وسحرها وأديانها وهوياتها ورائحتها النفاذة التي أفسدتها الوهابية والشمولية الناصرية والفساد.
حميد زيد