سبق لي أن نبّهت السيد مصطفى بنحمزة إلى مجموعة من الأخطاء المعرفية التي وقع فيها وهو بصدد الحديث عن الحريات في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، وقلت آنذاك إنه لا يجوز تأويل مضامين هذه المرجعية بغير ما تعنيه بالفعل، حيث لا تقبل مفاهيم حقوق الإنسان التحريف والتلاعب في دلالاتها وأبعادها، ويبدو أن السيد بنحمزة قد كف فعلا عن هذا التحريف حيث عمد مؤخرا خلال تصريح له بالناظور نشرته الصحافة، إلى التبرأ من حقوق الإنسان ومن القيم الكونية واعتبار أنها ليست موضوع إجماع شعوب وأمم العالم، وغير ملزمة للمغاربة لأنها غربية أجنبية.
وأعتقد أن الموقف الجديد للسيد بنحمزة أفضل بكثير من محاولة تمرير قيم غير ديمقراطية تحت قناع حقوق الإنسان، عبر تحريف هذه الأخيرة، ولنا الآن كلمة مع السيد بنحمزة بعد أن أزاح قناعه وظهر في صورته الحقيقية.
أولا يخلط السيد بنحمزة إما عن قصد أو عن جهل بين الحريات المدنية كما هي مثبتة في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان وبين معنى "الحرية المطلقة"، حيث يعتبر أن تقييد الحريات وفق منظوره الضيق وبناء على مرجعية دينية خصوصية هو الحلّ الوحيد، وأن خلاف ذلك يوقع في الفوضى والحرية المطلقة التي لا حدود لها، والسؤال المطروح هو التالي: كيف يفعل السويديون والنورويجيون والسويسريون والدانماركيون والألمان والهولنديون وغيرهم من الشعوب المتقدمة، لينظموا مجتمعاتهم أحسن تنظيم بناء على المفهوم الكوني للحرية، كما هو موجود في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان، ولماذا لا تعتبر بلدانهم مجتمعات فوضى واضطراب ؟ بل على عكس ذلك لماذا نجد بلاد المسلمين هي الغارقة في الفوضى، وكلما ألح المسلمون على خصوصيتهم الدينية كلما ازدادوا اضطرابا وتزايد الشقاق فيما بينهم وكثرت فيهم الفتن واتسعت أوضاع التخلف ؟
فالحرية إذن هي حرية مدنية مقننة ولها حدود معلومة هي حريات الآخرين وحقوقهم، في إطار المساواة بين المواطنين الذين لا توجد بينهم مفاضلة معيارية باسم العقيدة أو اللون أو العرق أو اللغة أو الجنس، ويبدو أن هذا النوع من المساواة هو ما يخشاه السيد بنحمزة، لأنه يسعى إلى تكريس معنى للحرية تحت وصاية التقاليد وفقهاء المساجد، بينما كلّ حرية تحت الوصاية ليست حرية على الإطلاق.
ثانيا القول إن المرجعية الدولية لحقوق الإنسان ليست كونية وإنما هي نتاج اتفاق بين بعض الدول التي فرضتها على غيرها، يظهر مقدار عدم الإلمام بالمرجعية الدولية لحقوق الإنسان وبمضامينها، فما هو كوني هو ما أسهمت فيه كل الحضارات الإنسانية بدون استثناء، والإسلام ساهم في هذه القيم بما هو كوني فيه، كالبرّ بالوالدين وعدم الغش في الميزان وعدم الكذب وتجنب القسوة والغلظة ومساعدة الفقراء واليتامى والدعوة إلى العمل والإنتاج، وغير ذلك من القيم الكثيرة التي ساهم بها الإسلام في ترقي البشرية و تجاوزها لصعوبات العهود القديمة، لكن بالمقابل استطاعت حضارات أخرى بعد أن تراجعت الحضارة الإسلامية أن تخطو خطوات أبعد نحو تحرير العبيد بشكل نهائي وحاسم والمساواة بين الرجال والنساء وتوسيع مجال الحريات والمساواة في إطار المواطنة إلخ.. وهي قيم يمكن ملاءمة المضامين الدينية معها باعتماد قراءة اجتهادية منفتحة هدفها صون الكرامة الإنسانية وفق المعايير المعتمدة اليوم وليس قبل ألف عام، غير أن هذه القراءة الاجتهادية تجد في طريقها عائقا كبيرا هو تراكمات الفقه الإسلامي الميت، الذي ارتبط بعهود سابقة على التطور الذي حصلته البشرية في القرون الثلاثة الأخيرة، مما جعل ضحاياه من فقهائنا كثيرين ومنهم السيد بنحمزة.
أحمد عصيد