الجمعة كان معنا رجل جميل للغاية في برنامج “قفص الاتهام” على ميد راديو. إسمه لحسن زينون، وشهرته بين الناس العشق منذ القدم حد الهوس للرقص، لكن اشتهاره الحالي يحمل إسم فيلمه الجديد “موشومة”، ويحمل بالتحديد إسم وشكل لقطة اعتبرت الجموع أنها “خليعة”، و”خادشة للحياء”، وحاملة لكل أوجه تخلفنا التي نتحدث عنها باستمرار.
في دفاعه عن “موشومة” وعن لقطته الشهيرة اختار زينون يوم الجمعة الفارط الهجوم باعتباره أفضل وسيلة لا للدفاع، ولكن لشرح الإيمان بالجسد، وشرح الاختلافات الكبرى الموجودة بين استعمال الجسد كموضوعة فنية، وبين رؤيته في المشهد العادي والعام باعتباره جنسا وخلاعة وما إليه من المصطلحات التي يلجأ إليها من لا علاقة لهم بالسينما لا من قريب ولا من بعيد لكي يتحدثوا عن… السينما.
زينون تحدث عن الاشتغال على ذاكرة المغرب والمغاربة، وأعلى من شأن الوشم وتغزل به باعتباره المكتوب الوحيد الذي وصلنا من قديمنا وأعادنا إلى العادات والتقاليد الأصيلة لدينا، قبل أن تمسنا رياح التخونيج في هذا البلد، وذكر منها عادة بيلماون المليئة بالإحالات الجسدية الحرة والمتحررة في المغرب، واستطاع جرنا بالفعل ونحن نحاوره إلى هاته الردة الكبرى التي نحياها في بلد كنا نعتقد على الدوام قادرا على مقاومة مد الرداءة الجارف، قبل أن نكتشف أن التجهيل والأمية لا يمكنهما أن ينتجا في الختام إلا ما نراه اليوم.
لقد أصبح اليوم من المستحيل أن يخرج فيلم إلى القاعات السينمائية، ولا تسمع “علماء آخر الزمان” يتحدثون عن اللقطات الخليعة فيه، علما أن الخلاعة ليست حكرا على القاعات السينمائية ولا على الأفلام، وكثير ممن يتصدون اليوم للدفاع عن “أخلاق المجتمع الفاضل الوهمي” الذي يدافعون عنه، هم من رموز الخلاعة الفعلية، لا خلاعة السينما الوهمية أو الخادعة.
وحين كان زينون يقول لنا عن بطلة فيلمه فاطيم العياشي إنها إبنة أسرة كبيرة ومثقفة، وتربت بين مكتبتين ضخمتين للغاية، كنا نفهم قليلا من الجهل المسيطر على المكان الذي لا يمكنه أن يرى في أي استعمال للجسد في السينما، في التلفزيون، في الكتابة، إلا دعوة لممارسة العادة السرية والسلام.
الإبداع لا يستقيم مع الجهل، ومسؤولية كل الجهات التي لديها سلطة في بلدنا قائمة من أجل تربية الناس على الإبداع قبل أن نستمع لكل هاته الآراء “الحصيفة” حول فنون لها أهلها، ولها ناسها، ولها طريقة الحديث عنها، ولا يمكنها أن تستباح بهاته الطريقة العامية، وأن يسيل دمها بين القبائل، لا بل وأن يصبح بإمكان أي عابر هب من فراشه، ودب على الأرض أن ينظر فيها وأن يعطي بخصوصها الفتاوى والتأويلات.
ولكم كان مشهد البرلماني عبد العزيز أفتاتي معبرا مرة أخرى وهو يقول “ما شفتش الفيلم وماغاديش نشوفو ولكنه كيشجع الإباحية”. هذه هي قمة التطبيق الفعلي لشعار المغاربة الشهير “ولو طارت معزة”. هناك اليوم أناس لا يقصدون القاعات السينمائية أبدا، ولا علاقة تربطهم بالفرجة المكثفة على كل شيء، ولا ينوون في يوم من الأيام أن يكتشفوا السينما وعالمها اكتشافا فعليا، لكنهم وحين يصلهم خبر لقطة ما في فيلم ما، يشحذون الهمم، ويستفيقون من النوم, ويشرعون في الحديث الجاهل عن الهوية وعن الدين وعن الاستهداف وعن بقية الترهات التي لم يعد يصدقها أحد، لكنها تصلح لإرضاء الضمير، ولعب دور الحراس الأمناء على أخلاق نراها تنتهك يوميا آلاف المرات.
منافقون؟ ربما. جاهلون؟ أكيد، والمرء عدو مايجهله، وعندما نرى اليوم التلفزيون المغربي باعتباره الوسيط الإعلامي الذي يتوجه إلى أكبر قدر من الناس، نفهم لماذا تفكر الجموع لدينا بهاته الطريقة الجاهلة. عندما نرى المدرسة وما تلقيه في عقول الصغار، أو الأصح ما لا تلقيه في عقولهم، نفهم سبب سيطرة الجهل على كل مكان. عندما نرى الأسرة المغربية, ومكانة الكتاب لديها، وكيف أنه يوجد في مؤخرة الاهتمامات، نفهم بل نؤمن بأن الجهل لا يمكن إلا يكون قدرا لنا جميعا.
وأنا أتابع زينون الجميل يدافع عن فيلمه بكل حماس الكون الجمعة الماضية، وعن تصوراته لاستعمال الجسد في العمل الفني، كانت مشاهد كثيرة من المجتمع المغربي تدور بمخيلتي، وكنت أسأل نفسي قبل أن أسأل زينون “على من كتعاود زابورك ياهذا؟ وهل مكن لشعب تعرض لعقود طويلة من التجهيل والأمية وغسل الدماغ بأبشع الطرق واردئها أن يستوعب معك فكرة التوظيف الفني لجسد امرأة أو رجل في عمل فني ما؟”.
بل هل يمكننا يوما أن نفهم سبب وقيمة وضرورة وجود الفن ككل في حياتنا؟