رغم كثرة الحديث والكتابة حول علاقة الدين بالسياسية واختلاف الآراء بين من يدعو إلى عدم تسييس الدين ويحذر من خطورة ذلك ، وبين من يدعي أن السياسية والحكم وتدبير الشأن العام هي أمور من جوهر الدين .. فلا يختلف اثنان اليوم في المجتمعات العربية الإسلامية حول وجود وأهمية هذه العلاقة ،باعتبار الدين يشكل في مجتمعاتنا وعيا جمعيا واجتماعيا ، ومنهجا أخلاقيا وموضوع اعتزاز وحماس للفرد والجماعة.ويمكنه أن يكون وسيلة للتحرر ومحاربة الفساد يتضمن في عمقه مضمونا احتجاجيا قادرا على احتواء أنين المضطهدين والمحرومين .. لذلك يبدو أن الحديث عن علاقة السياسة بالدين أمر محسوم فيه مادام الإسلام يشكل أهم عنصر في هوياتنا الوطنية والقومية .
لكن ما يتخوف منه بعض عقلاء السياسة هو أن تسفر هذه العلاقة عن زواج مصلحة ، وتستغل براءة الدين للوصول إلى السلطة ، لتنكشف آنية الزواج ومصلحة الساهرين على هذا الزواج الأبيض عندما يُلبس الشهود و القائمون على هذا الزواج الدينَ ألبسة تكشف عن مدى البون الشاسع بين الدين كقيم وأخلاق وعبادات وشعارات.. وبين الممارسة السياسية ومعالجة الملفات الاجتماعية ، خاصة عند غياب برامج تنموية حقيقية وعدم وجود كفاءات - لها قوة اقتراحية سياسية جريئة قادرة على تقديم قيمة مضافة لمجتمعات ينهكها الجهل والتخلف والمرض- لدى معظم الأحزاب " الدينية " في ا لوطن العربي ، اللهم شعارات عامة تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية ، وإقامة دولة الحق ومحاربة الفساد ... كل ذلك تحت شعار عام ( الإسلام هو الحل ) وتقديم شخصيات فقهية "نقية" تمثل نموذجا للدين والتقوى وتحفظ شعارات مذغذغة للحواس والمشاعر تخفي العملي النسبي المصلحي والاجتماعي خلف المقدس المطلق الروحي الوجداني و الديني ، وهي مقتنعة بأن تلك الشعارات عاجزة عن إشباع معدة الجائع ، وإيجاد العمل للعاطل... ومتجاهلة أن النتائج ستكون مخيبة للآمال عند إدراك حجم المسؤولية التي يحملها الشعار الديني و ما ستصبح عليه صورة رجل الدين عندما يجد نفسه في السلطة ، إن الصدمة وقتها ستخلق حالة من التصدع والاحساس بالاغتراب والتمزق بين عجز الرجل الدعوي الذي قد يبدو "قزميا" أمام التطور الهائل الذي يقدمه العلم كل يوم .
لذلك ينتظر، ما أن ترجع القواعد إلى هدوئها وتستأنف تمييزها في الممارسة الدينية بين الممارسة الشعبية التي ستظل عامة الناس قاعدتها ، والممارسة الرسمية أو السياسية التي ستقتصر على الماسكين بزمام السلطة ، وتدرك أنها لا زالت في القاعدة وأن من كانوا بالأمس معها أصبحوا في القمة ، (ينتظر) أن تثور من جديد في وجه أحبة الأمس ( حكام اليوم )..
على الرغم من سعي السلطة الساسية الدينية الحاكمة دائما إلى كسب مصداقيتها من الممارسة الدينية الشعبية بتأييد مواقفها وإيجاد المؤسسات التي تؤطرها من مساجد وجلسات وخطب وقنوات ومجالس محلية جهوية ووطنية أو من خلال تبني شعاراتها وتجنب إعلان أي تناقض في القيم والمواقف والإديولوجيا بينهما، فإن أساليب العمل وتطلعات طبقات الشعب وطريقة تدبير الشأن العام وإكراهات الممارسة الرسمية ستكون كفيلة بتفجير الصراع داخل نفس المنظومة ..بين عدوين أزليين هما الحاكم والمحكوم وان اتفقا على الشعار ، ولعل هذا ما حدا بالجماعات الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في كل من مصر تونس واليمن والمغرب إيهام الجماهير أنها لا زالت تمثل المحكومين وربما اعتقد بعضهم أنها لا زالت تمثل المعارضة ،وتقف إلى جانب المظلومين وأنها عازمة على اجتثاث فلول الفساد محاولة تصوير "المعارضة" بأنها فاسدة ومعرقلة لمسيرة التطور، وأنها هي طاهرة نقية .. متناسية أنها أن مقاليد البلاد والعباد أصبحت تحت سيطرتها وأنها صاحبة الحل والعقد و المسؤولة الوحيدة عن أي تباطئ أو تراجع اقتصادي ، ونظرا لخصوصية المرحلة ولإن الجماهير لا زالت مذهولة مما تحقق ، فهي تصدق وتقبل هذه الأدوار التي تلعبها الحكومات الجديدة وتقبل منها ما لم تكن تقبله من حكومات سابقة كالزيادة في أسعار المواد ، والتراجع عن المكتسبات ، والتخلي عن اتفاقيات موقعة (وثيقة العاطلين نموذجا ) ، وتقليص عدد الوظائف وإرغام الشارع بقبول ضرورة ترشيد النفقات وسياسة شد الحزام.... كل ذلك وغيره كثير مع جعل الجماهير تقبل فكرة التعلق بوعود معسولة لم يكن يثق بها أحد قبل أشهر، بعدما ملوا شعارات من قبيل الحصول على سكن وعمل وتطبيب .. يحقق للإنسان العربي كرامته ، وكرس قناعة لدى معظم الجماهير بأن ذلك من رابع المستحيلات.،
إن إكراهات تدبير الشأن العام تربك أي مسؤول عندما يقف على حجم االتطلعات ومحدودية الميزانية المرصودة مما سيقوي لديه سياسة التبرير ، واختلاق لوبيات التصدي ، ومهادنة الغاضبين المتبنين لنفس الإديولوجية ، ولكم في حوار راشد الغنوشي مع السلفيين ، ومغازلة بن كيران لجماعة العدل والإحسان ، وطلب محمد مرسي ود كل من السلفيين والأقباط ... ما يكشف بالملموس أن السلطة تغري حكامها وتجعل الفئة الحاكمة حمّالة أوجه تلبس أقنعة حسب المخاطبين للحفاظ على كرسيها ، فهي في حوارها مع الغرب تقبل التفتح وتؤمن بالتعدد والديمقراطية ، وفي حوارها مع السلفيين محافظة دينية هدفها بسط السيطرة على كل المؤسسات العسكرية والمدنية في أفق دولة دينية ، والجماهير في كل ذلك لا تريد وعودا ونوايا "حسنة "، وإنما تتطلع لمشاريع تنموية تخلق فرص شغل حقيقية .
ذ.الكبير الداديسي.