في الحكي الأول لكل القصص التي تؤسس علاقتها مع الناس، تبدو لهم صورة امرأة مغربية صميم، تدخل السجن وتخرج منه، تنظر بعين الحدب للقابعين وراء الأسوار، تعتقد أنه من الممكن أن نشهر في وجوههم أشياء أخرى غير القانون، وغير القضبان، وغير الرمي خلف الجدران.
تتصور هي أنه من الممكن أن نشهر في وجه هؤلاء المحرومين من الحرية القليل من الابتسام. أن تعلن الحنان طريقة لمجابهة قضاياهم, وأن تعطي رقم هاتفها النقال لكل من يريده منهم لكي يتصل بها متى يشاء، ويخبرها بحادث وقع له هنا، أو بمكروه أصابه هناك، أو لينقل إليها طلبا صغيرا يخص أسرته الموجودة في الحرية المعتقلة تنتظر خروجه إليها يوما.
يوم السبت وضعت ماما آسية مثلما كان يلقبها العديد من السجناء تحت التراب. ذهبت إلى خالقها بعد أن قرر القلب الكبير التوقف. ودائما كنت أتساءل عن قدرة هذا القلب على العطاء وإن كنت أعرف أن من يجري في جيناتها دم ثريا السقاط، ودم محمد الوديع الأسفي ستجد ما يكفي من الجهد ومن الصراع لكي تواصل إلى الأبد كل المعارك. لكن القلب في الختام لم يقو على تحمل كل تلك الآلام، وقرر أن يوزع الحب بالتساوي بين من تبقوا في المكان وأن يغادر.
وفي الحكايات التي تشبه حكاية ماما آسية رحمها الله، يبدو المغرب محتاجا بالفعل لكلمة الشكر الدائمة هاته. أتذكر اليوم عائشة الشنا والعمل الرائع الذي تقوم به مع الأمهات العازبات، وأتذكر حكيمة حميش والعمل المتميز للغاية الذي تخوض من خلاله معركة محاربة السيدا، وأتذكر العديد من السيدات الأخريات، فأفهم ونفهم جميعا أن نساء رائعات في هذا البلد يرفضن في لحظة من اللحظات أن يعتنقن الشعارات _مثلما نفعل نحن_ وينزلن إلى الميدان، يخضن من خلاله حروبهن من أجل تقدم هذا البلد، فإن لم يكن الأمر ممكنا في المدى المنظور فعلى الأقل من أجل التخفيف من جزء من معاناته أو معاناة بعض أبنائه.
ولأن العمل الطيب في الختام هو الذي يبقى، فقد كان مستحيلا أن تجد شخصا واحدا ينتقد ماما آسية في الحياة وحتى بعد الرحيل. والكثيرون يوم سمعوا بالنبأ صباح الجمعة، أحسوا بفقدان شخص قريب إليهم، وإن لم يعرفوها عن قرب حقا في يوم من الأيام. المغاربة يقولون عن هذا الأمر “كلها كيذكروه فعايلو”. وأفعال ماما آسية ستبقى قادرة إلى الختام على الحديث عنها أفضل من كل ما قد نقوله جميعا من كلام.
ولآل الوديع الطيبين مرة أخرى كل كلمات العزاء. سنة 1992، وهم يضعون تحت الثرى الوالدة والمناضلة الكبيرة، ثرياهم، ثريا المغرب كله، كانوا يشعرون بالفقد الكبير، ويترحمون على صاحب “الجرح العنيد” الوالد الوديع، ويقولون “اللهم اجعلها آخر الأحزان”. أما وقد أتاهم النبأ الآن بأن آسية التحقت بالذاهبين، فيا لهول المصاب، ويا لكبر الفجيعة، ويا لسلسال هاته العائلة الخاصة من نوعها وهو يكتب حبه للوطن بهاته الطريقة وبهذا الشكل القاسي والعنيد فعلا.
كتبت ثريا يوما حكايا للصغار، واختارت عناوين معبرة للغاية من “فاطمة المفجوعة” إلى “اللبؤة البيضاء”، وهي كلها عناوين تصلح لكي تصف واحدة من أسرة آل الوديع بشكل أو بآخر، لكنها أساسا كتبت “أغنيات خارج الزمن”، وتركتها علامة لكل الوافدين منها أو بعدها لكي يسيروا على النهج ذاته، ولكي يدندنوا بها إلى آخر الأيام.
ويصعب، بل يندر أن تجد عائلة تتماهى مع البلد إلى الحد الذي يجعل البلد يحسها تنتمي إليه مثل هاته العائلة. لذلك لا عزاء اليوم في آسية، ولا تبادل لكلمات الرثاء التقليدية. السيدة أتت، فعلت ما كان لازما فعله بكل الاقتناع الممكن، ثم رحلت حين كان الرحيل ضروريا وحتميا ولا يقبل أي تأجيل. لكن في الدرس الإضافي الذي لايمكن المرور قربه دون الاستفادة والاستيعاب، تبقى القدرة على السمو فوق المعارك الشخصية الصغيرة، والإيمان بمعارك الوطن الكبرى هي أكبر الرسائل وأهمها في حياة هاته السيدة، وحياة من يشبهونها ممن وهبن حياتهن لأمر يتجاوز الشخصي العابر بأميال.
وفقط، حين تقع الواقعة، ونفقد أمثال هؤلاء، نفهم أنهم كانوا يقومون بشيء رائع، ربما اعتبرناه واجبا عليهم لفرط ما رأيناهم فيه، لكن وبعد التدقيق قليلا، وبعد التعرف على التضحيات التي كان يفرضها القيام بذلك الأمر نفهم _بعد فوات الأوان_ أن الأمر ليس سهلا، وأنه فعلا يتطلب شخصيات من طراز خاص.
لنسأل أنفسنا “كم واحدا قال لماما آسية شكرا على كل ما تقومين به” وهي على قيد الحياة؟