احتل ملف السلفية الجهادية في تونس رأس قائمة اهتمامات التونسيين والمهتمين بالشأن التونسي خارجيا. والغريب أن الجميع لم يتجاوز بعد، مرحلة الصدمة والاستغراب والارتباك والتقصي المعلوماتي الجامع بين المعلومة الدقيقة والأخرى المبالغ فيها أو المتوهمة والمتخيلة أصلا.
بل إن حتى أقوى دول العالم رغم عظمتها في علوم السوسيولوجيا والنفس، فإنها اكتفت بالتعبير عن صدمتها وكأن ظاهرة السلفية الجهادية ظاهرة تهبط من السماء فجأة مثل الأمطار الغزيرة والإعصار القوي. وعوض المعالجة المبنية على أسس المعرفة العميقة ضاع وقت طويل ثمين في التعبير عن الصدمة وفي استثمارها سياسيا، سواء خارج تونس أو داخلها.
فالسلفية الجهادية تكاد تكون ظاهرة مركبة جامعة عامة لكافة الشعوب الإسلامية مع فوارق جزئية تشمل حجم الظاهرة وآليات تشعبها اجتماعيا. وتونس كغيرها من الدول الإسلامية أولا وبوصفها بلدا من العالم الثالث يعاني التخلف بشتى أنواعه، إضافة إلى كونها عاشت ثورة حديثة العهد أطاحت بنظام ديكتاتوري.. كل هذا يساعد نظريا في بث النشاط بين عناصر هذه الجماعات وأيضا تحولها من سلفية جهادية مهاجرة إلى مستوطنة والاستفادة مع مناخ الحرية الذي فرضته الثورة على جميع فئات المجتمع واتجاهاته.
فالمشكل الأول ليس في المكان الذي تحل فيه السلفية الجهادية، بل في الدينامية الداخلية لهذا الفكر الذي هو نتاج حالة تشظٍ عميقة بين الواقع المهمش للإنسان المسلم في العالم، حيث إنه يعيش على هامش التاريخ والتقدم والحضارة بالمعنى المعاصر للكلمة وبين الواقع الذي تحمله تمثلاته عن الإسلام والمسلمين الذين تصفهم المرجعية النصية القرآنية بخير أمة أخرجت للناس. هذا التأرجح بين صورة عظيمة تسكن التمثلات الدينية الاجتماعية وبين واقع عالمي يغيب عن إنجازاته العالم العربي والإسلامي أفرز أفرادا مسلمين يعيشون في الماضي وفي التمثلات ويعلنون في حياتهم اليومية الجهاد ضد ما يتراءى لهم اعتداء على ماضيهم من جهة وما يذكرهم بهامشيتهم الراهنة من جهة أخرى.
هذا الفكر المنغلق الماضوي الذي يتغذى من العنف الرمزي والمادي ويتكئ على تأويلات موجهة وفقا للحالات النفسية لبعض مفاهيم النص القرآني، تمكن منذ سنوات طويلة من التغلغل في أخطر الفئات الاجتماعية: الشباب العربي المسلم، أي تمكنت الرؤوس المتاجرة بالفكر السلفي الجهادي من السيطرة على أعداد من الشباب الإسلامي وهنا مكمن الخطورة. فهي استثمرت القلب النابض للمجتمعات أي فئة الشباب واستغلت وضعه الاقتصادي وأزمة الهوية التي يعيشها الكثيرون فكان خزانها الاجتماعي الفتاك والناجع.
المشكلة أن الاهتمام اليوم مركز على هذا الخزان الاجتماعي، وهناك تغافل عن الرؤوس المدبرة، تماما كالحملة التي تقام ضد مستعملي المخدرات مع عدم الاكتراث ببائعي المخدرات ومروجيه. طبعا من السهل القبض على الأول وما أصعب القبض على الثاني.
إذن الفكر السلفي الجهادي كالقط الذي يلهث وراء رائحة السمك المشوي وأينما وجده انقض عليه. لذلك لا يوجد أي داع للشعور بأي صدمة تجاه بروز ظاهرة تقريبا كل أسبابها قائمة الذات. كما نعتقد أن التفسير الاقتصادي لظاهرة السلفية الجهادية في تونس يجد مبرراته. فليس من قبيل الصدفة أن يكون أغلب المنخرطين في السلفية الجهادية من أحياء شعبية مهمشة ترتفع فيها نسب الفقر والخصاصة ومعدلات البطالة. فالشباب العاطل عن العمل والمنتمي إلى عائلات ذات وضعية اقتصادية صعبة يكاد يكون العنصر المهيمن على الخصائص السوسيولوجية للمنخرطين في الفكر السلفي الجهادي. فهؤلاء الشباب هم الخزان الاجتماعي الفعلي لهذا التيار والذين يتحركون وفقا لأوامر مافيا السلفية الجهادية، بدليل أننا لو سألنا الشباب الذين هاجموا سفارة الولايات المتحدة لدى تونس هل شاهد جميعهم الفيلم المسيء للرسول، صلى الله عليه وسلم، لوجدنا أن فئة قليلة شاهدت الفيلم والغالبية انصاعت لأوامر رؤوس محترفة في غسل الأدمغة.
إن موضوع السلفية الجهادية في تونس أسهل وأخطر من أن يظل جوهر لعبة حكومة ومعارضة أو ورقة ضغط من دول قوية في العالم. فالضغط الأكثر قيمة وأهمية هو مساعدة تونس في مشكلاتها التنموية المتراكمة، حيث إن مواطن الشغل هي الحل، واتساع الأفق هو الدواء. ذلك أن، الهجرة إلى الماضي وإلى الموت اضطرارية أولا وأخيرا.