بعيدا عن الحزبية والاختلافات الفكرية، وفي اللحظة الحاسمة يتجرد المرء من كل شيء إلا من حب الوطن ، شعبا وتاريخا ، والاستعداد للتضحية من أجله ، في نكران تام وخالص للذات.
فالمغرب يمر بمفصل تاريخي حاسم ومصيري يقتضي وضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار حزبي أو شخصي أو عقائدي . لهذا نحن بحاجة إلى الحكمة والتبصر لتقدير الأحداث واستباق المنزلقات حتى لا نترك المغرب رهين حسابات ضيقة سرعان ما تجر الكارثة على الجميع . مناسبة هذا القول ما يصدر عن أطراف حزبية، من هنا وهناك، بخصوص سحب الثقة عن الحكومة أو الانسحاب منها . وإذا ما تحقق هذا الأمر ، فإن حزب العدالة والتنمية سيستغل الحدث ويبالغ في لعب دور الضحية لكسب تعاطف الفئات المهمشة على وجه الدقة . ومن شأن هذا الاستغلال أن يقود إلى "فتنة كبرى" لا يمكن توقع مآلاتها . وحتى تتضح الصورة جيدا وتجلو المخاطر ، يمكن استحضار المعطيات التالية:
1 ـ إن العزوف السياسي الذي غدا السمة البارزة للمشهد السياسي في المغرب هو بمثابة بركة آسنة إذا لم تتجدد مياهها غدت مصدرا لكل عناصر الفتك والتدمير . فالمشاركة السياسية للمواطنين تقيهم اليأس والعدمية كما تحميهم من ميول العنف والتدمير . ولا يمكن التحفيز على المشاركة إلا بجعل المواطنين يلمسون التغيير في الواقع السياسي والاجتماعي ، ويقطفون أولى ثماره
2 ـ إن الإدماج الحقيقي للشباب في الحياة العامة هو صمام الأمان للوطن ضد الانحراف والغلو والتطرف. فالشباب الذين يعيشون الفراغ واليأس سيبحثون لهم عن قضية يعيشون من أجلها حتى وإن كانت الطائفية أو التطرف أو الإثنية .
3 ـ إن إفشال الحكومة سيقوي تيار الرفض داخل حزب العدالة والتنمية وقد يبعث فيه ميول العنف ونزعات التطرف كرد فعل يرافق الشعور بالغبن والحݣرة والتذمر . الأمر الذي سيدفعه اضطرارا إلى التحالف مع التيارات العدمية والرافضة والانتحارية . فجميع هؤلاء توحدهم مشاعر السخط ودوافع الانتقام من العدو المشترك ، ألا وهو نظام الحكم . في مثل هذه الأجواء النفسية المتوترة تختفي التناقضات الإيديولوجية لصالح التناقض المركزي الذي سبق وعبر عنه شعار "الضرب معا والسير على حدة" .
4ـ إن غالبية الأحزاب الحالية بلغ منها الترهل والفساد ومرض الشخصنة مبلغه حتى غدت هي نفسها عبئا على الدولة والنظام . فمثل هذه الأحزاب التي تنخرها الحروب الداخلية على المواقع والمصالح ، لن توفر للنظام سندا ولا قاعدة شعبية يرتكز عليها لتثبيت الحكم في وجه الفلول الغاضبة أو الناقمة.
5ـ إن النظام الملكي هو عنصر استقرار سياسي واستمرارية تاريخية للشعب المغربي ، فضلا عن كونه ضامن وحدته وتنوعه الثقافي .والنظام الذي لا يحميه الشعب لا قرار له مهما كانت قوته الأمنية والعسكرية (نموذج ليبيا وسوريا واليمن حيث التقتيل لم يزد المواطنين إلا إصرارا على التحرر) . وأي تهديد للنظام هو بالضرورة تهديد للاستقرار والاستمرارية والتنوع الثقافي.
6ـ إن أي انتفاضة في المغرب على شاكلة "ثورات" الربيع العربي لن تستغلها سوى القوى المنظَّمة والمتماسكة داخليا . ولن تكون هذه القوى سوى التيار الديني ، بقطبيه الإخواني والسلفي ، الذي سيفرض مشروعه المجتمعي على الجميع ، فتضيع كل المكتسبات الحقوقية والسياسية التي راكمها المغاربة بتضحياتهم . وما يجري حاليا في تونس ومصر عبرة لمن يعتبر.
7ـ إن المراهنة على فشل الحكومة الحالية لإفشال تجربة حزب العدالة والتنمية وإظهاره كحزب لا يحسن تدبير الشأن العام ، هو رهان خاسر ؛ لأن الحزب له أساليبه في التواصل وله نسيجه الجمعوي الذي يتقن ثقافة القرب . فضلا عن هذا ، فالحزب يتقن لعب دور الضحية ويدرك جيدا أن المغاربة ، بحسهم السياسي ، يتعاطفون مع الضحية ، وخاصة ضحية "المخزن" .فأعضاؤه وقياديوه لا يكفون عن ترديد عبارة ( ما خلاوناش نخدمو ) . ولعل جواب «لحقاش مخلوهومش يخدمو » العفوي الذي فسر به أحد شباب طنجة ليومية مغربية تصويته لصالح مرشحي حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الجزئية الأخيرة ، فيه أكثر من دلالة . ونفس النقطة شدد عليها أحمد الشقيري الديني ، عضو الأمانة العامة للحزب ، لما اعتبر أن الأخطاء السياسية في حق حزب العدالة والتنمية (رفعت من قوة التعاطف الشعبي مع حزب يقود الحكومة يبدو أنه مستهدَف) .
8ـ إن البديل الذي يمكن أن يحل محل حزب العدالة والتنمية في تدبير الشأن الحكومي بات فاقدا للمصداقية ، خصوصا وأن بعض قياداته متورطون في نهب المال العام أو تبذيره ؛ مما سيزيد من حالة التذمر والغليان التي وصلت حدود الانفلات المؤذن بالانفجار ( ارتفاع نسبة الإجرام ، محاولة إحراق دركي بطنجة من طرف المتشددين ، الصدامات اليومية بين المواطنين والقوات العمومية ، عنف السلفيين المتشددين ، احتلال الباعة المتجولين للشوارع الرئيسية في المدن ، العنف في الملاعب الرياضية، اتساع ظاهرة الاغتصاب الخ ) . كل هذه مؤشرات تدل على فقدان هيبة الدولة والقانون والانجرار نحو غليان شعبي مدمر.
لهذه الاعتبارات سيكون خطأ سياسيا فادحا أن تلقى مسئولية فشل حكومة بنكيران على التيار الحداثي/الديمقراطي . وفي نفس السياق ، على حزب العدالة والتنمية أن يكف عن لعب دور الضحية وعن اتهام أطراف داخل الدولة بعرقلة عمل الحكومة والسعي لإفشالها . فالجولة التي قام بها الملك إلى دول الخليج تروم ، في النهاية ، دعم الحكومة عبر جلب مزيد من الاستثمارات إلى المغرب. وهذه مبادرة مهمة ومشجعة من الملك إلى حكومة بنكيران . فبدلا من ترك الحكومة تواجه المصاعب الاقتصادية التي يعانيها المغربي ووضعيته المالية التي تزداد صعوبة بسبب الانعكاسات السلبية للأزمة التي تعيشها أوربا ، أخذ الملك على عاتقه البحث عن حلول لدى دول مجلس التعاون الخليجي التي منحت للمغرب وضعا متقدما من شأنه أن يفتح آفاقا أرحب للتعاون الاقتصادي بين الطرفين وفق قاعدة "رابح رابح" . سيما وأن دول مجلس التعاون الخليجي سبق ووعدت بدعم المغرب بخمس مليارات دولار خلال الفترة الممتدة من 2012 إلى 2016.
سعيد الكحل.