بقلم: محمود صالح عودة
في كلّ عام تقريبًا، وتحديدًا عند مجيء عيديْ الفطر والأضحى، تبدأ الخلافات من جديد بين المسلمين حول تحديد يوم العيد أو بالأساس بداية الشهر الهجري، متى يبدأ؟ ومتى الصيام؟ ومتى العيد؟ وهو شيء مؤسف حقًا لو علمنا بأنّه يمكننا اليوم رصد ولادة الهلال بالدقيقة والثانية لمئات ألوف السنين القادمة وأكثر، من خلال أجهزة الرصد الفلكيّة الحديثة، دون حاجة إلى رؤيته بالعين المجرّدة أو من خلال المنظار (تلسكوب).
تصرّ بعض الدول والمؤسّسات في العالم الإسلاميّ، وعلى رأسها المملكة العربيّة السعوديّة، على رصد الهلال بالعين المجرّدة، وفقًا لحديث “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته”، ومن ثمّ يتبع السعوديّة معظم العالم الإسلاميّ لأنّ فيها مكّة والمدينة، ومناسك الحجّ تتمّ فيها كذلك، إضافة لكون السعوديّة صاحبة الأثر الأكبر على كثير من الحركات السلفيّة وغيرها في العالم الإسلاميّ.
جاء في القرآن الكريم: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} (الفيل: 1)، أي ألم تعلم، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم وُلد في عام الفيل ولم يدرك واقعة أصحاب الفيل، فالرؤية قوامها العلم، وإذا كان العلم يقينيًا كالعلم الفلكي اليوم فهذا يغني عن رصد الهلال بالعين المجرّدة. فإذا وُلد الهلال فلكيًا قبل غروب الشمس يصبح معلومًا بالضرورة أنّ الشهر يبدأ في اليوم التالي، أي بعد غروب الشمس، فاليوم في التقويم الهجريّ – القمريّ يبدأ بعد الغروب، ولا حاجة لرؤية الهلال بالعين المجرّدة لأنّه وُلد حقًا وفقًا للحساب الفلكيّ الدقيق.
لقد كان الاختلاف حول التقويم الهجري وطريقة رصده وما زال سببًا رئيسيًا للتفرقة بين المسلمين وعائقًا أمام وحدتهم، ولا أبالغ إذا قلت إنّه يحطّ من قيمة التقويم الهجريّ ككلّ، فلا يمكن الاعتماد على تقويم تختلف فيه دولتان، فيكون اليوم مثلاً 11 ذي الحجّة في دولة و10 في دولة أخرى، فذلك ينفّر المرء من التقويم الهجريّ – القمريّ ومن استخدامه نظرًا للاختلافات في التقويم وعدم الدقّة المترتّبة عليه، ويلجأ للتقويم الميلاديّ.
إنّ للتوقيت في الإسلام مكانة مهمّة، ولقد أقسم القرآن بالدّهر نظرًا لقيمته وعظمته في سورة العصر {وَالْعَصْرِ}. ثمّ لا يمكن أن يستخدم إنسان يحترم وقته ووقت غيره تقويمًا يأتيه الباطل وتكثر فيه احتمالات الخطأ والاختلاف، ولا يليق بالمسلمين أن يستمرّوا في استخدام أساليب قديمة تحتمل الخطأ مع وجود أساليب جديدة لا تحتمل الخطأ وهم أمّة العلم.
لقد كان رصد الأهلّة بالعين ضروريًا في زمن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعدم وجود وسيلة أخرى لرصد الأهلّة، حتى أنّه أجاز صلّى الله عليه وسلّم للمسلمين إن تعسّر عليهم رصد الهلال أن يصوموا ثلاثين يومًا دون رؤيته. ولكن هذا لا يبرّر الركون إلى هذه الطريقة في عصرنا الحديث نظرًا للتطوّر العلميّ الذي يقطع الشكّ باليقين. فهل سحاب السماء إذا حجب الشمس يغيّر توقيت الظهر أو العصر مثلاً؟ وإذا تعسّر علينا رؤية غروب الشمس نظرًا للغيْم أو الجبال هل نؤجّل صلاة المغرب؟ بالطبع لا. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم {ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} (الرحمن: 5) “أي: يجريان متعاقبين بحساب مقنّن، لا يختلف ولا يضطرب” (تفسير ابن كثير)، وقال ابن عاشور في تفسير الآية: “حسبانهما ثابت لا يتغيّر منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق”، فكيف نوفّق بين قول الله سبحانه وتعالى وبين الخلاف الدائم بين المسلمين حول تقويمهم؟ يجب أن يصحّح هذا الخطأ وبأسرع وقت.
لقد تطوّر العلم الفلكيّ منذ العصر العبّاسي واخترع علماء المسلمين القدامى آلات فلكيّة مثل الأسطرلاب (نسبة للعالم البديع الأسطرلابي)، وتحدّث بعض كبار علماء الأمّة المعاصرين عن وجوب – وليس فقط جواز – الأخذ بالحساب الفلكيّ الدقيق لتحديد التقويم الهجريّ، أمثال العلّامة يوسف القرضاوي. ولقد أصدر شيخ الأزهر السابق محمد مصطفى المراغي فتوى تجيز الأخذ بالحساب الفلكي في حينه، ووافقه الرأي لاحقًا الشيخ أحمد شاكر بل ذهب إلى وجوب استخدام أسلوب الحساب الفلكيّ بدلاً من النظريّ. وكتب المفكر الإسلاميّ محمد بن المختار الشنقيطي مقالاً في هذا الصدد وذهب إلى نفس الرأي القائل بوجوب استخدام الحساب الفلكي.
إنّ استمرار الخلاف حول التقويم الهجري يستدعي وقفة قويّة من قبل العلماء والمفكّرين والحريصين على دينهم وأمّتهم لإزالة هذه الخلافات من خلال إصلاح المؤسّسة الدينيّة والضغط على القائمين عليها، كي لا يستسلموا لـ”حقّ النقض” أو “الفيتو الدّيني” السعوديّ إن شئت بكلّ ما يخصّ القرارات المصيريّة لهذه الأمّة، والله أعلم من أيّ جهة يصدر هذا “الفيتو” السعوديّ قبل النطق به من دار الإفتاء السعوديّة أو غيرها.
من الحلول الأخرى لهذه المشكلة إشراك العلماء والفقهاء ذوي المرجعيّات العلميّة المختلفة في صنع القرار داخل المؤسّسات الدينيّة كما كان الأمر في زمن الازدهار والرخاء الإسلاميّ. هذا الحلّ يفتح الباب لعلماء الدّين على علوم الدّنيا فيصبحوا علماء وفقهاء بحقّ، يشتركون في صنع القرار لقضايا الأمّة المختلفة ويلمسون الواقع الذي يعيشه الناس، ليأتوا بحلول ملموسة لهم وليس فقط لوعظهم.
لن تقوم قائمة لأمّة لا تحترم تاريخها وتقويمها ووقتها، ولا محلّ لأمّة لا تأخذ بأسباب العلم والتقدّم البشريّ – وقد كانت سبّاقة بهما – بين الأمم الآن وفي المستقبل.