لم يكن المال قط وسيلة لتحصين أي نظام سياسي، وإنما الديمقراطية هي أنجع أداة لذلك، ولقد أدرك المغرب مبكرا هذه الحقيقة. وحين خاطب الملك محمد السادس الشعب في 9 مارس 2011 لم يقدم وعودا بإسقاط الذهب والفضة من السماء أو الزيادة في الأجور أو توزيع الإتاوات، بل حدد المحاور الأساسية للإصلاح الدستوري.
لقد اختار المغرب تحصين المسار الديمقراطي بتعديل دستوري عميق، وهو مسار يحتمي بنزاهة الانتخابات، والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، ولا يحتاج إلى أي " كارت" آخر، لأنه اختيار يصون نفسه بنفسه، ويحمل بذور نجاحه وقوته في ذاته، ويستمد الشرعية من ثقة المواطنين فيه، ولا يخشى من أية هبة نسيم سواء أكانت في الربيع أو الصيف، ولا تنال منه حتى الرياح العاتية للخريف وأنواء الشتاء.
عمر الربيع العربي في المغرب لم يستمر سوى أقل من 20 يوميا، لم يكمل دورة الإزهار، كما خطط لذلك البعض، وماتت براعم الفتنة التي راهنت عليها جماعة العدل والإحسان وغيرها من الأطياف التي كانت على اتصال دائم بمصالح بعض السفارات الأجنبية التي ظلت تغدق عليها بسخاء، (ماتت) من قبل أن يشرئب رأسها من التراب، فكان طبيعيا أن تقضي في المهد.
اليوم هناك من يضيق صدره بهذا الهدوء، فيفتعل العواصف، ولم ير في الزيارة الملكية للخليج سوى كارت سياسي جديد من دون أن يكلف نفسه عناء السؤال ما هي أوجه الجدة في هذه العلاقات؟
لقد كانت العلاقات بين المغرب ودول الخليج دائما علاقات ممتازة، بالرغم من الفتور الذي قد يصيبها أحيانا، وهذا أمر طبيعي، لأن المثل الشعبي يقول: "ما تيعاتبك غير لي تيبغيك"، ولأن " المصارن في الكرش وتيتخاصمو"، لكن هذه العلاقات لم تصل قط حد القطيعة، وظل للمغرب وضع اعتباري خاص لدى الكثير من دول مجلس التعاون الخليجي، ووقف المغرب إلى جانب هذه الدول في وقت الشدة... في الأحداث الدامية التي كانت وراءها إيران بقلب الكعبة... وأثناء الاجتياح العراقي للكويت، وفي موقفه الواضح والصريح من الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية الثلاثة...
وقد ظل المغرب وجهة مفضلة للاستثمارات الخليجية، ولم يكتف الخليجيون بالاستثمار في القطاعات الاقتصادية بل شيد ملوكهم وأمراؤهم مساكن لهم يجيئون إليها لقضاء عطلهم السنوية، ليس مجاملة للمغرب، ولكن عشقا لهذا البلد، فما وجه الغرابة، اليوم، في أن يقرر مجلس التعاون الخليجي إقامة شراكة استراتيجية مع المغرب من أجل المساهمة في تحفيز الاقتصاد الوطني عن طريق الدعم المباشر للميزانية، وإقامة المزيد من مشاريع البنية التحتية، وزيادة الاستثمار.
حين يضع المغرب صناديق اقتراع شفافة على الطاولة، ويحرص على حرية التصويت، يقولون إن ذلك لا يضع الخبز على الطاولة، وحين يضع الخبز على الطاولة يقولون إن الخبز لا يصنع الديمقراطية، ويتجاهلون أن الملك محمد السادس اختار وضع الاثنين معا فوق الطاولة: الخبز والصناديق الشفافة.