عندما تأسست الصين الشعبية سنة 1949، لم يكن أحد يتوقع أن تحقق الصين كل الازدهار الاقتصادي الذي تعيشه الآن. كانت الصين حينها من أفقر دول العالم، كان ناتجها المحلي دون 67,9 مليار دولار عام 1952 و بقي عند هذا المستوى إلى حدود 1978 أي لمدة تقارب ثلاثة عقود. وكانت حصة الصين من الإنتاج العالمي دون 3% وحصتها من التجارة العالمية تكاد تكون منعدمة في حين كانت نسبة سكان المدن لا تتجاوز 20%. أما على مستوى التصدير والبحث العلمي فلم يكن للصين نصيب يذكر مقارنة حتى مع الدول المتخلفة، ونفس الشيء ينطبق على بنيتها التحتية، حيث كانت الصين بكل بساطة دولة تقبع في المؤخرة.
بعد هذا بدأ معدل النمو الإقتصادي للصين وحصتها من الإنتاج العالمي يتصاعد بشكل أبهر كل دول العالم.
في عام 1978 تبوأ دينغ شياو بينغ عدة مناصب عليا في الحزب، كانت الصين حينها على حافة انهيار اقتصادي وتواجه مشاكل اجتماعية جمة وتحتاج لحلول خلاقة وقيادة حازمة للخروج من أزماتها. بدأ الرجل القوي في الحزب والدولة في تبني سياسات مختلفة تماما عن سابقيه لتبدأ الصين مرحلة جديدة تميزت بازدهار اقتصادي واجتماعي مبهر. شدد دينغ على ضرورة تبني الصين لسياسة تحديث دون تدخل أجنبي ووعد بمرحلة جديدة من الإصلاحات مع انفتاح على العالم الخارجي. وأوضح على أن طريق التحديث يجب أن يكون متناسقا تناسقا تاما مع المبادئ الأربعة الرئيسية للحزب الشيوعي وهي 1- التمسك بديكتاتورية البروليتاريا 2-مواصلة السير على هدى الاشتراكية 3-تحت قيادة الحزب الشيوعي 4_الاقتداء بأفكار ماركس ولينين وماو تسي تونغ.
بدأ دينغ إصلاحاته بحرب فكرية أو ما سماه ب"تحرير العقول" من الفهم الخاطئ للاشتراكية، وحاول أن يُبين للصينيين بأن الملكية الخاصة واقتصاد السوق لا يتعارضان مع مبادئ الاشتراكية. كانت أول خطوة في وضع الصين على مسار النمو هي تقويم الدور التاريخي لماو تسي تونغ بحيث عمل دينغ على إصدار قرار بعد انتهاء الدورة السادسة العامة للجنة الحادية عشر للحزب الشيوعي أدان فيه الثورة الثقافية ومبادئها الخاطئة التي قامت عليها. وللحفاظ على وحدة الحزب والاستقرار السياسي للصين (وهو شرط ضروري للنمو الاقتصادي) أوضح القرار أن مساهمات "ماو" كانت أولية خصوصا على مستوى محاربة الأمية والرعاية الصحية وأن أخطاءه كانت ثانوية.
عمل "دينغ" على أن يكون النمو الاقتصادي الأداة التي ستحول الصين إلى بلد عصري مزدهر وقوي له مكانة بين الدول ويحترمه الجميع. وحدد الأهداف التي ينبغي على الصين تحقيقها خلال مسيرة بنائها في مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي للصين أربع مرات بحلول عام 2000 لتوفير مستوى عيش جيد للمواطن الصيني، ثم مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي أربع مرات أيضا في الثلاثين إلى الخمسين السنة التالية لكي تصبح للصين مكانة بين الدول المتقدمة وتكون بذلك مثالا تحتذي به الدول النامية. وبدأت الصين في اتخاذ خطوات تدريجية لتبني اقتصاد السوق والابتعاد عن الاقتصاد الذي تخطط له وتهيمن عليه السلطة المركزية وسمحت بلامركزية القرارات الاقتصادية. وخطت خطوة كبيرة في سياسة الانفتاح على الخارج بعد إنشائها للعلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة عام 1979.
ركزت الصين في العشر سنوات الأولى من الإصلاح على العالم القروي، حيث بدأت الإصلاحات فيه باعتباره كان الأشد تضررا من سياسة الثورة الثقافية والتي خلال سنواتها العشر(1966-1976) كان الفلاحون يعانون من نقص شديد في كل شيء. لم يكن باستطاعتهم الاحتفاظ ولو بالنزر اليسير من منتوجاتهم، فقد كان دورهم يقتصر على الإنتاج وتقديمه لسكان المدن. لكن في عام 1978 تم تقسيم ما تملكه الحكومات المحلية من أراضي على الفلاحين وسمح لهم بالاحتفاظ بفائض الإنتاج بعد تقديم الحصص المطلوبة منهم للحكومة ووزعت عليهم المواشي لتتشكل بذلك النواة الأولى لنظام اقتصادي عصري، في حين لم تشهد المدن الكثير من الإصلاحات مما تسبب في بعض الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
بعد حادث "تيانان مين" عام 1989 بدأت الصين مرحلة جديدة من الإصلاحات استمرت حتى عام 2000. خلال هذه الفترة تحول اهتمام الحزب الشيوعي إلى المدن وبدأ في تطبيق إصلاحات اقتصادية بعد نجاحه في تطبيق الإصلاحات في العالم القروي. أدرك الحزب الشيوعي أن النمو الاقتصادي وزيادة دخل الفرد الصيني هو السبيل الوحيد لإطفاء غضبه، فأدخلت الحكومة تعديلات لتشجيع الصينيين على إنشاء مقاولاتهم الخاصة، وبالتالي الشروع في إدخال مبادئ اقتصاد السوق على الاقتصاد الصيني. ثم أنشأت الصين بعض المناطق الصناعية على سواحلها لتشجيع المستثمرين الأجانب على دخول السوق الصينية، كما عملت على تحفيز الأنشطة التجارية المربحة وأدخلت إصلاحات جديدة لعصرنة نظام إدراة الشركات.
المرحلة الثالثة استمرت من 2001 إلى حدود 2007، وهي مرحلة ما بعد الانضمام لمنظمة التجارة العالمية. شهدت هذه المرحلة ارتفاعا في الاستثمارات والاستهلاك المحلي. ولعب انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية دورا كبيرا في جلب الاستثمارات الكبيرة وتسهيل دخول الصين للأسواق العالمية وبالتالي مضاعفة الحجم التجاري للصين. وتبنت الصين خلال هذه الفترة نموذجا اقتصاديا يعتمد بشكل كبير على الصادرات والاستثمارات في القطاع الصناعي بحث شكلت الصادرات والاستثمارات المباشرة حوالي 60% من النمو الصيني وهي نسبة كبيرة جدا مقارنة مع الدول الأخرى(16% في مجموعة السبع و 30% في منطقة الأورو). وتصل نسبة الاستثمارات إلى 40% من الناتج الإجمالي الصيني لتكون الأعلى بين دول العالم.
حققت الصين نموا متميزا في فترة قصيرة نسبيا؛ فقد استطاعت أن تحافظ على نمو مستدام في الثلاثين السنة الماضية من دون أن يفقد زخمه، وكان متوسط النمو السنوي خلال هذه الفترة 9.45%، وبلغ الذروة عامي 1994 و2007 بنسبة 14.2%، وسجل نسبة 7.6% وهي الأقل انخفاضا عام 1994.
وفي الوقت الذي تعاني فيه أغلب دول العالم من الأزمة المالية العالمية وتداعياتها ولا تدخر جهدا لإنعاش اقتصادياتها المترنحة، تحاول الصين الحد من تسارع النمو الاقتصادي وإيجاد الوسائل الناجعة لإدارة ازدهارها الاقتصادي.
استطاعت الصين بفضل الإصلاحات التي بدأها "دينغ شياو بينغ" وسار عليها الحزب الشيوعي من بعده، ومرونتها في التعامل مع الوقائع، وبعد أفق الطبقة الحاكمة من تسطير قصة نجاح اقتصادي مبهر. فقد أخرجت الملايين من مواطنيها من الفقر(300 مليون) وتضاعف نصيب الفرد من الدخل القومي 245 بين 1973 و2002. كما تضاعف الاقتصاد الصيني خلال الثلاثين سنة الماضية 16 مرة، ونمى قطاع التصدير لتصبح الصين أول مُصدر عالمي. وأصبح نصيب صادرات الصين من التجارة الدولية 9% بعد أن كان 4% عام 1999 لتحقق بذلك فائضا تجاريا كبيرا مع العديد من الدول الأخرى. وخلال هذه المرحلة أيضا استطاعت الصين تحصيل كلما تملكه من احتياطي من العملة الصعبة حاليا(ما يزيد عن تريليوني دولار أمريكي).
تجاوزت الصين حاليا الاقتصاد الياباني لتصبح ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة الأمريكية وتتنبأ أغلب المؤسسات الاقتصادية العالمية بأن تصبح القوة الاقتصادية العالمية الأولى بحلول 2030، لكن على الصين أن تحافظ على وتيرة نمو لا تقل عن 10% سنويا في العقدين المقبلين. فهل ستستطيع الصين الاستمرار في صعودها ويواصل قادتها صناعة التاريخ.
باحث في الشؤون الآسيوية*.