سعيد الكحل.
فوجئ المغاربة ليلة الأربعاء المنصرم بما جاهرت به الوزيرة بسيمة الحقاوي في حقي على الهواء مباشرة، وفي برنامج حواري مباشر لم يكن تدين الافراد موضوع الحلقة . فالسيدة الحقاوي ضاقت بها جبة الوزيرة المسئولة التي تتحدد مهامها في تدبير الشأن العام بعد أن أدمى أذنيها سياط النقد والتقريع دون أن تجد الحيلة أو الوسيلة للاحتماء أو المنازلة الشريفة.
كانت جعبة الوزيرة خاوية من أي منجز أو مكسب تتمسح به أو تحتمي به من لدغ النقد غير ارتداء جبة المفتي التي وحدها تمنح الجرأة على الناس وعلى الدين . إذ لم تجد الوزيرة ما ترد به على محاوريها بعد أن انتبهت إلى أن الواقعية توحد بين مواقفهم كما لو أنهم ينتمون إلى تيار فكري أو إيديولوجي واحد وإن تباعدت بينهم السبل والدول ؛ غير فسح المجال لخلفيتها العقدية التكفيرية التي توظف الدين سلاحا لمواجهة الخصوم وتصفية الحساب معهم . فيصبح الدين/المقدس درع حماية وأداة هجوم لتقويض الخصوم.
فكيف سمحت السيدة الوزيرة لنفسها قياس تديني عن بُعد ؟ وكيف لها أن تحول حلقة لنقاش وضعية المرأة في الربيع العربي إلى محكمة تفتيش الضمائر ؟ من نصّبها لهذه المهمة القذرة التي قدم الأوربيون ملايين الضحايا للتخلص منها ودك مشانقها ؟ إلى أين تقودنا هذه الخلفية التكفيرية التي باتت تكتسح حتى المنابر الإعلامية الرسمية ومن مسئولين حكوميين ؟ بالأمس قال لنا وزير الأوقاف إن ما صدر من فتوى عن غير مصدرها الرسمي فهي مجرد رأي بحجة أن "المفتي" في هذه الحالة لا يملك سلطة ولا يمثل مؤسسة رسمية .
فلم تحرك وزارة الأوقاف ولا حتى وزارة الاتصال ساكنها لمتابعة مكفري المغاربة عبر المنابر الإعلامية. واليوم يصدر عن وزيرة مسئولة في حكومة منتخبة، ومن جهاز إعلامي رسمي تابع للدولة وخاضع للحكومة ، (يصدر) تكفير علني لمواطن ذنبه الوحيد أنه حذر من مخاطر التحالف بين الإسلاميين والسلفيين على الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان في بعدها الكوني. وما جاهرت به السيدة الوزيرة من طعن في عقيدتي بثته قناة رسمية خاضعة لوصاية وزير هو عضو قيادي في حزب الوزيرة الذي يقود الحكومة . الأمر الذي يقتضي منه قانونيا وأخلاقيا إدانة الفعل . إن خطورة ما جاهرت به السيدة الوزيرة ليس في تكفيري فقط ، بل تكفير كل المواطنين الذين لا ينتمون إلى التيار الديني.
فمقياس الإيمان والتدين الذي تؤمن به الوزيره وتطبقه ، يكمن في الانتماء إلى التيار الديني إما إخواني أو سلفي. ففيما الفرق ، إذن ، بين خطاب السلفيين الجهاديين وخطاب الإسلاميين المعتدلين ؟ أليسوا سواء في تكفير من ينتقدهم ؟ ألا يتكاملون الأدوار ؟ هل يخططون للسطو على الوطن وتهجير "غير المتدينين" منه في انتظار التمكّن لسحلهم أو تقطيع أطرافهم ؟ كنت آمل وغيري كثير في أن تُحدث المشاركة السياسية للإسلاميين أثرا مباشرا في عقائدهم التكفيرية وخلفياتهم المتشددة فيلينوا إلى عموم المواطنين دون تمييز . كما ساورني وغيري كثيرٌ الأملُ في أن تغير التجربة الحكومية منطق التفكير لدى البيجيديين وتجعلهم يعتمدون مبدأ المواطنة عوض مقياس الكفر والإيمان في التعامل مع المواطنين.
ولا شك أن ما جاهرت به السيدة الوزيرة سيزيدني وعموم الحداثيين الديمقراطيين إصرارا على مواصلة المعركة الديمقراطية ، كل من موقعه وبما تسمح به إمكانياته وظروفه، من أجل تكريس قيم المواطنة وإشاعتها حماية لثقافة الانفتاح والتسامح والتعددية التي ميزت الشعب المغربي عبر تاريخه العريق . فالمعركة الحقيقية التي تستوجب التعبئة والصمود هي معركة التصدي للمشاريع المجتمعية التي تحملها التيارات الدينية وتسعى لفرضها على المجتمع المغربي بمختلف الأساليب. أما معركة التنمية ومحاربة الفقر والهشاشة ، فتكفي إجراءات معدودة وحازمة لحسمها. فالشعب يستطيع التغلب على معضلة الفقر في بضع سنين، لكنه سيحتاج عقودا للتخلص من ثقافة الغلو والتطرف والكراهية إذا هي سرت في نسيجه المجتمعي . ذلك أن المواطن لا ينتج الفقر إلا اضطرارا ، لكنه سيعيد إنتاج ثقافة التطرف والعنف كلما تشبع بها وصار ضحية لها.
فالفقر يضعف مناعة الجسم أما الغلو فيضعف مناعة المجتمع . وما تعانيه المجتمعات التي شاعت فيها ثقافة التكفير والتطرف من إرهاب وتخريب، دليل قاطع على أن مفعول العقائد الفاسدة أشد خطرا وفتكا بالمجتمع من الفقر . وها هي تونس اليوم يقودها تحالف الإسلاميين والسلفيين إلى هاوية التطرف الذي بات يغزو مفاصل الدولة ويتغلغل في المجتمع عبر مداخل شتى : المساجد ، الجمعيات ، دور القرآن ، المنشورات ، العنف الممنهج ضد النساء اللائي لا يخضعن لمقاييس التدين كما رسمها التيار المتشدد ( طرد النساء الجامعيات اللائي لا يرتدين الحجاب ومنعهن من تدريس المواد الدينية ، الترويج لبدعة ختان الإناث والتحريض على تزويج القاصرات الخ).
ولعل مقطع الفيديو الذي تتداوله المواقع الاجتماعية عن لقاء الشيخ الغنوشي بقيادات التيار السلفي يكشف حقيقة التواطؤ بين حركة النهضة والسلفيين بهدف للسيطرة على المجتمع والدولة . ونفس المنحى يسير فيه إسلاميو العدالة والتنمية الذين يبذلون ما في وسعهم لتمكين التيار السلفي من فتح دور القرآن ونشر ثقافة الكراهية وفقه الغلو. فكما استفادت حركة النهضة من التوظيف المزدوج للسلفيين ، يستفيد كذلك حزب العدالة والتنمية في المغرب بإقرار من عضو أمانته العامة أحمد الشقيري الديني حيث كتب معلقا على فوز الحزب بمقعد نيابي بمراكش ( فإذا علمنا أن دور القرآن هناك لها متعاطفين كثر، ولشيوخها سلطة علمية على أولئك المتعاطفين، فهمنا دون كبير عناء فشل الحزب المتكرر في الظفر بمقعد بالمدينة ؛ لكن بعد إغلاق دور القرآن على إثر الضجة التي أثارتها فتوى تزويج الصغيرة التي نسبت لشيخ السلفيين هناك بن عبد الرحمن المغراوي، ومع بروز الربيع العربي/الديمقراطي، تغيرت عدة مفاهيم عند هذا التيار الذي أصبح يرى في التصويت على مرشحي حزب المصباح ضرورة شرعية تفرضها اعتبارات موازين القوى). فالقضية اليوم ليست قضية الكحل أو لغزيوي ، بل هي قضية تتعلق بمصير المجتمع ومستقبل الوطن.