أسميناه يوما ونحن نعتنق الوهم: الربيع العربي. قلنا سنتحرر. الشعوب ستنطلق. النخب ستكسر أغلالها المصنوعة من كل المصالح التي بنيت على امتداد السنوات. العقول ستجد السبيل لصرخة الحرية والفكر المتنور لكي يدخل كل المسام. توهمنا وتوهمنا، وقالت القناة العربية الكاذبة “هرمنا” فقلنا “آمين”. صدقنا الرجل التونسي وهو يمسد بيديه على الرأس الأشيب، وهو يقول لنا إن اللحظة التي انتظرناها جميعا قد حانت.
حفظنا شعارات التحرير. رددناها مع المصريين وإن لم تكن لغتنا تلك. قلنا مع الليبيين “ليسقط الطاغية المضحك، فقد مللنا نكته الكئيبة”. انتظرنا من اليمن السعيد بجهله وبالقات أن يتحرر من عبد الله. ثم قلنا هي الموضة إذن. هي صرعة الحرية إذ مست أخيرا بلظاها الفتان هذا التابوت الذي اعتقدناه مثلما علمنا الماغوط الكبير لايحضن إلا الميتين فعلا، ويمتد بهم من الماء إلى الماء.
ذهب بن علي في عمرة قسرية إلى السعودية. كتبت زوجته ليلى الحكايات. قبل علاء وجمال رأس والدهما حسني عشرات المرات أمام عدسات الكاميرات، والأقفاص الشهيرة التي كان يلقي فيها الريس معارضيه تحتضن “رفات” الثلاثة بلباس السجن الأبيض الشهير الذي يشبه كفن الفراعنة القدامى. رأينا القذافي يموت أبشع ميتة لا تتمناها لأحقر حيوان في الأرض. سمعنا التكبير يلف المكان من أقصاه إلى أقصاه، وقال القائل “هو الربيع العربي إذن”، فقلنا “لم لا؟ أليس من حق العربان أن يكون لهم ربيعهم؟ أليس قدرا لهم أن يفرحوا يوما ببعض الاخضرار هم الذين لم يروا إلا الذبول منذ أن هلوا على وجه هاته الحياة؟”
صدقنا وبدأت الحكاية تتخذ مشهدا آخر. في ليبيا اكتشفنا مع أول أيام الثورة المظفرة، ثورة السابع عشر من يبراير، أن الرئيس الجديد يريد فقط فتح الباب لتعدد الزوجات. ألم يقلها في الخطاب الأول بعد النصر؟ تساءل المتسائلون: “هل صنع الليبيون الثورة وقتلوا القذافي من أجل التعدد فقط؟” نسي الناس الأمر، ولم يعودوا لتذكره إلا مع كل وافد جديد من عالم الجهل الديني علينا، إلى أن كان ما كان من قتل للسفير الأمريكي الذي ساعد الثورة يوما دون أن يعرف أنه يساعد من سيغتالونه حرقا بعد ذلك بأيام.
في مصر صعد السلفيون إلى المجلس، أصبح الأذان في مجلس الشعب، أحد أعرق وأقدم البرلمانات العربية أمرا عاديا، وتنافس نواب الجهل الديني أو نوامه في الفتاوى المضحكة. بدا مرسي وهو يمد يديه يوما إلى أعضائه التناسلية قرب رئيسة وزراء أستراليا كرجل عالق في فخ لا يعرف له أي حل. سمعناه بعد ذلك يقول هو ومن أتوا معه إلى الحكم في بر المحروسة: المرشد أولا ثم الإسلام ثانيا، ثم مصر ثالثا. فهمنا أن الجماعة تنتقم لمسارها ومصيرها، وأن الدم الذي سال منذ حسن البنا يوما سيسيل ويسيل إلى آخر الأيام.
رأينا الشباب يوم الجمعة الماضي في التحرير دائما يتقاذفون الطوب بينهم والحجارة. تذكرنا أن مبارك في السجن، وأن العسكري استقال أو أقيل، وأن الإسلاميين هم الحاكمون، فقلنا: “ماذا يجري؟” وانكفأنا على الوجه خائبين والسلام.
في تونس بدا الغنوشي هادئا في الفيديو المسرب الأخير، يقول لإخوانه من أهل السلفية “غير بالشوية، وصبرو عليا”. حذرهم من مغبة التسرع، وقال لهم بأن الجيش والشرطة لا زال في يد العلمانيين، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن الساعة آتية لا ريب فيها. هل من مفاجأة في كل الذي يجري اليوم؟ هل من مفاجأة حقا؟ أم أننا مثلنا لأشهر دور المخدوعين بإرادتهم لأننا لا نجد بديلا آخر غير تصديق هاته الخديعة، لأن عكسها يعني أننا متنا والسلام؟ في الغالب المرجح هذه هي الحكاية.
العرب سنة2011 لم يقوموا بأي ثورة على الإطلاق. العربان أصلا ليسوا قوم ثورات. هم أناس عاطفيون يصرخون مع أول صارخ. يبكون مع أول باك، يفرحون مع أول فارح، ويخيبون على الدوام. يخيبون باستمرار. في الهوى القادم من لفحات الجزيرة شبه العربية بداوة كالحة لا تنتهي، تحمل في الطيات منها كثيرا من آيات الإخفاق. لمن يريد أن يعرف عنها قليلا كتب رجل يدعى عبد الرحمان منيف الشيء الكثير، لكن الجميل أو القبيح مع أمة مثل أمة العربان هي أنها لا تقرأ ولا تكلف نفسها هذا العناء. لعله السبب الذي جعل القرآن يوما يبدأ كل حكايته بآية “إقرأ” لأن الله جل وعلا يعلم أننا ملزمون بفعل الأمر هذا لأننا لا نقرأ، ولن نقرأ أبدا رغم الأمر الإلهي ورغم كل شيء. نحن نكتفي بالتفرج مفتوحي الأفواه على “الجزيرة” وعلى غيرها. نصرخ صراخ الأغبياء مع كل هبة جديدة من غبائنا علينا، ثم نعود للاستكانة الشهيرة التي ألفناها. ربيعنا العربي؟ هو خريفنا الذي يسبق الشتاء، لكنها لن تمطر ماء سلسبيلا. ستمطر علينا بالمزيد من الدماء. ذلك ثمن الجهل في نهاية المطاف.