إن خطورة ما وصلت إليه البلاد اليوم من تحكم في مختلف مناحي الحياة اليومية، وتعطيل الإنتاجية، وشل قدرات البلاد، لا يمكن أن يقود إلا إلى الديكتاتورية (لا ننسى أن هتلر نجح بالآلية الديمقراطية وانقلب عليها ورسخ أفظع حكم في تاريخ الإنسانية).
منذ تنصيب الحكومة الملتحية والنخب المغربية تعيش حالة تيه ودوخة. التيه والدوخة ازدادتا استفحالا بعد تواتر المعطيات عن غياب وسائط تؤطر الغالبية الساحقة من المجتمع، آخرها الدراسة الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط حول الشباب، حيث عكست هذه الدراسة أن 1 في المائة منهم هم من يجد نفسه في عائلة سياسية معينة بينما الباقي لا يوجد لديه أي رابط عاطفي أو وجداني مع أي حزب أو نقابة. وهذا هو الخطر، إذ إلى عهد قريب في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، كان الحزب (أيا كان لونه السياسي) حاضرا في أوحال المجتمع ويعيش مع الناس (دروس التقوية، حل المشاكل الإدارية، الدفاع عن مشاكل....إلخ)، وبالتالي حين تأتي المحطة الانتخابية يرد المواطن الجميل للحزب في لحظات التعبئة السياسية.
اليوم من حقنا أن نتساءل عن عدد الأحزاب التي لها حضور فيزيقي في المدن والمراكز الصغرى وتفتح المقرات نهارا وليلا وتستقبل الناس وتؤطرهم في هذه الجمعية أو تلك الودادية، وتتبنى قضاياهم المعيشية. الجواب معروف وهو الفراغ، من هنا خطورة الوضع، خاصة وأن الحزب الحاكم اليوم (حزب العدالة والتنمية) بنفسه لم يحصل رغم «الدوباج» المبذول من طرف التيارات السلفية والجهادية لفائدة مرشحي المصباح سوى على مليون و250 ألف صوت، أي بالكاد 4,16 في المائة من مجموع سكان المغرب.
ومما زاد الوضع التباسا أن الدولة، في أوج حركة 20 فبراير، انبطحت وتراجعت بشكل استغل معه حزب بنكيران الوضع ليحقق هذا المكسب (مكسب تدبير شؤون البلاد رغم أنه أقلية ضعيفة)، علما أن التوقعات العامة (داخليا وخارجيا) كانت تحصر حظوظ «الخوانجية» في أن يفوزوا بـ70 مقعدا على أبعد تقدير، وليس 107 مقعد بمجلس النواب.
لكن أخطاء الداخلية والارتجاف الذي أصاب السلطة العمومية في سياق حركة 20 فبراير فرخ تسونامي إسلاموي. هذا التسونامي استفاد -في رأينا- من خطأين قاتلين للسلطة العمومية: الخطأ الأول يتجلى في الحملة الإعلامية الضخمة التي بوشرت لحث الناس على التصويت والمشاركة في العملية الانتخابية بالنظر إلى أن هذه الحملة لم تجلب سوى الناس الناقمين على الأحزاب (اليسارية وغيرها) والراغبين في تجريب حزب جديد. إذ أن هذه الفئة ما كان لها أن تعبأ لولا «الطاباج» الإعلامي، ولولا الحملة المكثفة المذكورة. أما الخطأ الثاني فيتمحور في كون السلطة لما فتحت الباب لإعادة التسجيل في اللوائح الانتخابية، فإن ذلك كان فرصة ذهبية لجلب زبائن جدد للحزب الإسلامي ما كان له أن يحلم بهم (أي بالزبائن الجدد) لولا انزلاق، بل وانبطاح الدولة وباقي العائلات السياسية التي لم تتهيأ لهذا التحول ولم تستعد قبليا للموضوع بالدراسات والاستشراف وتحريك الأذرع الجمعوية والنقابية والشبابية لهذا التيار أو ذاك لسد الطريق على «الخوانجية» حتى لا ينعموا لوحدهم بهذا «النصر المبين.»
إن خطورة ما وصلت إليه البلاد اليوم من تحكم في مختلف مناحي الحياة اليومية، وتعطيل الإنتاجية، وشل قدرات البلاد، وتعطيل الاستثمار، وتأخير الصفقات وتفريغ خزائن الدولة من العملة الصعبة، ورهن المغرب من جديد بيد المؤسسات المالية الدولية، ووأد أحلام الطلبة الجامعيين في الظفر بمقعد بالكلية أو معهد، وانكماش الاستثمارات الأجنبية، وتراجع مكانة المغرب في الساحة الدبلوماسية، لا يمكن أن يقود إلا إلى الديكتاتورية (لا ننسى أن هتلر نجح بالآلية الديمقراطية وانقلب عليها ورسخ أفظع حكم في تاريخ الإنسانية.)
هذا التخوف مسنود بالقلق الذي يسود العديد من الأوساط من احتمال انتقال بنكيران إلى السرعة القصوى لتنفيذ مشروعه التحكمي، خاصة وأن بيده الآن سوط مؤلم يتجلى في كونه المسؤول عمليا على التعيين وتثبيت المسؤولين السامين في حوالي 1200 منصب عال جدا (بالوزارات والإدارات والمؤسسات العمومية)، وهو سوط بإمكانه توظيفه لزرع أنصاره دون خوف من «حلفائه» في الحكومة، على اعتبار أن الوزراء المنتمين لباقي الأحزاب المشكلة للحكومة الملتحية ليسوا سوى «مومياءات محنطة» لا يستشعرون خطورة ما يحاك في الخفاء. بدليل أن لا أحدا من ممثلي هذه الأحزاب الثلاثة انتفض و«حيح» على عدم تدخل الدولة لحماية موظفيها السامين الذين مرغ حزب بنكيران سمعتهم في الوحل رغم أنهم خدموا الدولة لعقود (هذا هو الجزاء وإلا فلا)!! وتم طردهم أو تجريدهم من المسؤولية بشكل جعل نهايتهم مذلة ومأساوية. وهنا مربط الفرس، إذ أن الإدارة التي لم تكن في الماضي مسيسة بالمعنى الحزبي الضيق، فإنها اليوم مهددة بأن تصبح «ماكينة» حزبية لطحن المصلحة الكبرى للوطن وإقصاء كل تعبيرات المجتمع السياسية والفكرية حتى يبقى هناك صوت واحد يسود، ألا وهو صوت بنكيران وأتباعه. وهذا ما يستدعي صحوة الدولة والعائلات السياسية الأخرى للتحالف مع النخب المتنورة التي لها امتداد ومشروعية بالمجتمع بدل التحالف مع نخب مقطوعة عن جذور المجتمع، خاصة ونحن مقبلون على موسم انتخابي محلي حاسم من أهم سماته تنزيل الجهوية،
وإذا كان المغرب قد عاد إلى مرحلة السكتة القلبية وطنيا، فالأمل أن لا يتكرر السيناريو جهويا، وإلا فلنقرأ الجنازة على المغرب كدولة حتى لا نضطر يوما إلى مناشدة الحلف الأطلسي ليقصف المغرب (مثلما حدث مع ليبيا) للبرهنة على أن لاشيء يسير على ما يرام ببلادنا منذ مجيء الحكومة الملتحية.
عبد الرحيم اريري مدير نشر "الوطن"