عثر زميلنا نور الدين مفتاح في افتتاحيته الأخيرة في “الأيام” على عنوان موفق للغاية، لوصف الصحافة في البلد اعتمادا على جملة سبق للحسن الثاني رحمه الله أن قالها عن المهنة يوم كلف بها عبد الهادي بوطالب حين قال له “إنني سأكلفك بتلك الحلوفة”.
الحسن الثاني رحمة الله عليه مجددا كان له تصور خاص للصحافة، فهو من جهة كان يعشق الحوارات السياسية الحرة، وكان يتسلطن حين تتيح له قناة فرنسية أن يتحدث عبرها بفرنسيته الأنيقة المثقلة بكثير الإحالات الثقافية الكبرى، وبكثير الاعتداد بالنفس الآتي من اطلاعه على جزء عميق وخطير من التاريخ السياسي العالمي والفرنسي على وجه التحديد. وهو من جهة ثانية كان يقفل علينا كل الأبواب، وكان يعتقد أن التلفزيون المحلي (والصحافة بصفة عامة) هو أخطر من أن يترك له الحبل على الغارب، أو أن تمنح لهما الحرية كلها لكي يقوما بواجبهما مثلما تفرض المهنة ذلك.
لذلك بقي المغاربة على تناقضهم الكبير الذي ورثوه عن ملكهم الحسن الثاني، قوما يتابعون القنوات الأجنبية والصحافة العالمية بكل شغف وانبهار، ويأتون حتى التلفزيون المحلي والصحافة المحلية “وكتدوخ ليهم الحلوفة”، ولا يعرفون من أين ينطلقون ولا أين يتوقفون. الحلوفة اليوم تقتل أهلها، وتثقل على حامل وزارتها، وتعطي الإحساس للجميع أنها فعلا تائهة، وأن دوختها هي الدوخة الأكبر من نوعها في تاريخ البلد. ومع كل الانتقادات التي كتبناها ونكتبها وقد نكتبها عن أداء الوزير الشاب مصطفى الخلفي منذ قدومه إلى الوزارة، إلا أننا ملزمون بالاعتراف أنه نجح في شيء واحد على الأقل هو إفهامنا بأن “الحلوفة دايخة لينا هاد الأيام”، وأننا لا يمكن أن نستمر هكذا إلى ما لا نهاية. وعندما يتفلسف بعضنا حيث لا تفلسف ويحاول إيهامنا بأننا ملزمون بأشياء كثيرة وخطيرة لكي يتحرر ميداننا الصحافي من دوخته هاته، نعود نحن إلى البديهيات الأولى والبسيطة، ونقول بعبارة جد ساذجة “الشيء الوحيد الذي يلزمنا هو أن يرفع السياسي يده عن القطاع”، بعدها كل شيء سيكون جيدا للغاية.
لذلك اعتقدنا أولا أن مصطفى الخلفي وهو القادم من المهنة، المتابع لأدق تفاصيلها، والمنخرط في أغلب النقاشات التي عرفتها قبل استوزاره من خلال حضوره في هيأة الناشرين، سيبدأ من هاته النقطة: نقطة تخليص تلفزيوننا وصحافتنا من السياسي وسطوته عليه، لذلك كتبنا في البدء متفائلين، ومتحدثين، وقد عابها الناس علينا حينها، عن ثورة الخلفي في التلفزيون، لكن مع قدوم الدفاتر في صيغتها الأولى، فهمنا أن المراد هو تغيير سطوة سياسي بسطوة سياسي آخر على هذا القطاع، لذلك قلنا خوفنا ودهشتنا وتبرمنا من بقائنا أسرى هذه الدورة القاتلة في الفراغ، وقد كان ماكان من نقاش الدفاتر مما لا حاجة للعودة إليه اليوم.
الآن إلى أين نذهب بهاته الحلوفة التي نحملها وتحملنا؟ المثير وأنت تبحث عن جواب للسؤال هو أن المهنة في المغرب لا تعي تماما وجود أزمة عالمية في القطاع، ولا تضع في اعتبارها أننا من الممكن أن نبقى في نقاشاتنا البيزنطية هاته إلى أن أن نفتح الأعين يوما فنجد أن الصحافة مثلما نعرفها ونتحدث عنها قد انقرضت، وأن صحافة أخرى قد بدأت لاعلاقة لنا بها، ولم نستعد لها ولا نمتلك آلياتها، وسيكون علينا أن نبدأ من أجل الالتحاق بركبها من البدء الأول أو من الصفر الذي اخترعناه كعرب ونعشق الانطلاق منه على الدوام. وإذ نرى من يخططون للمهنة مستقبلها والأناس القادمين من مجالات أجنبية عنها من أجل أن يرسموا لها خارطة الطريق نمسك بالرأس بين الأيدي ونطرح السؤال جارحا في بديهيته لكن مشروعا إلى درجة لا يمكن تصورها: كيف يمكن لمن لا يعرف كيف تخرج جريدة أو كيف يكتب مقال أو كيف ينجز روبرتاجا تلفزيونيا أو إذاعيا أن يخطط للمهنة مستقبلها؟ عذرا على الفجاجة في طرح السؤال، بل ربما عذرا على الوقاحة والتطاول، لكنها الحقيقة: كل مهن الكون يصلحها أبناؤها، إلا الصحافة يأتي إليها أناس لا يعرفون الفوارق بين أجناسها لكي ينظروا لها ولكي يقولوا للصحافيين “يجب أن تعملوا كذا ويجب أن تتوقفوا عن عمل كذا”. هل من وصف لهذه الحالة؟ نعم، نعم. هناك وصف مغربي صميم لها، هو عبارة “داخت الحلوفة” التي انطلقنا منها. لذلك قلنا إن زميلنا مفتاح توفق في انتقاء اللفظة المناسبة في اللحظة المناسبة، ولو أنه تعفف عن استعمال عبارة “الدوخة” قبلها، لذلك نفعلها عوضا عنه مع اقتناعنا أنه هو ومعه بقية المشهد الإعلامي المغربي مقتنعون معنا تمام الاقتناع بأن هذا هو الواقع الأليم. شنو هو الحل إذن؟ المزيد من الدوخة، أو الشروع في الاستيقاظ، ولنا الاختيار على كل حال.