تكاثرت في تونس أعمال العنف والترهيب التي يرتكبها الشباب الذي يظن نفسه متدينا وبقية الناس كفارا إلى حد أصبح يوجب القول إن الفارق بين ما يجري في تونس وما يجري في شمال مالي هو فارق في الدرجة وليس في الطبيعة. فماذا قدمت جماعات التدين الخوارجي الإجرامي لسكان شمال مالي؟ تعجلت إقامة الحدود وسارعت إلى هدم المساجد الأثرية وأضرحة الأولياء الصالحين. ولأن هذا لا يكفي، فإنها أتت بما لم يستطعه الأوائل من منع وحظر وتحجير وتحريم حتى غدا كل شىء في شرعها حراما: بما في ذلك سماع الراديو ولعب كرة القدم! وبينما ينهمك هؤلاء المدججون بسلاح العنف وبظلام الفكر في بناء مدينتهم الفاضلة القاحلة، أي مصير يلقى مليون وخمسمائة ألف من سكان الشمال؟ إنهم يتكبدون فظاعة المجاعة، وتتزايد بينهم حالات الإصابة بالكوليرا بينما تتكاثر سحب الجراد (ونذر المزيد) بعد أن دمرت جماعات الأبرار ما تبقى من معدات ومبيدات كانت تستخدم لمكافحته في مثل هذا الموسم من كل عام.
وقد سمعت على إذاعة فرنسا الدولية متحدثا باسم إحدى هذه الجماعات يقول له المذيع إن المجتمع الدولي بأسره قد استنكر الجريمة المرتكبة ضد التراث الثقافي العالمي والذاكرة الإنسانية بهدم المساجد والمقامات في تمبكتو، فإذا بالمتحدث يرد بفرنسية طليقة: «هذه مشكلتكم أنتم: المجتمع الدولي. المعالم الأثرية. التراث العالمي. كل هذا ليس من شأننا. نحن لا نعترف بهذا المجتمع الدولي أصلا. نحن نطبق الشرع ونقتدي بالرسول»!!
شىء من هذا -باتحاد في الطبيعة ومجرد اختلاف في الدرجة- وقع في تونس. قال الشاب الذي انتدب نفسه للدفاع عن (سوء فهم) دين الله للمفكر المجدد يوسف صديق فور قدومه مدينة القيروان للمشاركة في مسامرة رمضانية حول «سماحة الدين الإسلامي»: أنت شخص غير مرغوب فيك هنا في القيروان، بل غير مرحب بك في كامل تونس «التي صارت دولة إسلامية». قال يوسف صديق بتواضعه الإنساني الجم: إذن أصير بلا وطن؟ قال الشاب: لقد كنت تتعامل مع نظام بن علي. سأله يوسف صديق: وكيف ذلك؟ وأظهر له ما يثبت أنه مقيم في فرنسا منذ عام 1982. فأجاب الشاب: إذن أنت سببت السيدة عائشة...
هكذا. إن لم تكن هذه، فتلك! في المسامرة تحدث الشيخ عبد الفتاح مورو عن سماحة الإسلام وعن رحمة الاختلاف. فقاطعه الشاب ذاته مناديا بمنع يوسف صديق من المشاركة. قال الشيخ مورو إن يوسف صديق لا علاقة له بمسألة النيل من أم المؤمنين عائشة. فإذا بهذا الشاب، الذي اختلطت عليه الأسماء، يتهم الشيخ مورو بالكذب... وعندما قال له الشيخ: «استح يا ابني، إني في سن والدك»، رماه بكوب على رأسه... الأمر الذي استوجب نقله إلى المستشفى!
ليس بعد هذا من حاجة إلى دليل على صحة قول أحد علماء الزيتونة بأن هؤلاء المتطرفين هم في الأصل منحرفون. كان انحرافهم في عهد الدكتاتورية انحراف فساد، أما الآن فقد صار «انحراف تدين». والمصيبة أنهم يحسبون أنهم يذودون عن دين الله. ولا يمكن أن يخطر ببال أحدهم أنهم، في الحقيقة، إنما يعتدون على عباد الله بسبب سوء فهمهم لدين الله. ولو لا استمرار موقف السكينة والطمأنينة الحكومي، رغم استفحال الخطر، لما اضطر الشيخ مورو إلى أن يدعو من المستشفى إلى عدم اعتبار ما حدث حالة معزولة وإنما «ظاهرة باتت تتكرر وهي تتطلب التشخيص والتفكيك والمعالجة».
ولقد كان من المؤثر حقا أن يكتب شيخ جليل من أهل القيروان تجاوز التسعين هو الأستاذ مصطفى الفيلالي، الذي كان من رجالات الرعيل الأول في بناء دولة الاستقلال، في جريدة «الصباح» رسالة بعنوان «وإذا القيروان سئلت...» يخاطب بها الشيخ مورو، فيقول: «يحزنني أن يكون النيل من حرمتك الشخصية بذريعة الدين، وقد غدوت في أهلك من أنصاره المتبصرين «يبشرون ولا ينفرون»، قوامين للحداثة يؤصلون جذورها (...) يؤسفني، وأنا من أهل تلك الديار، أن تلقى ما لقيت من غلظة بمدينة القيراون، حاضرة المالكية، موطن سحنون وابن غانم وابن الفرات، رواد حضارة الفكر الإسلامي المؤسسة على الحوار، المرسخة للدعوة على الحكمة والموعظة الحسنة والجدل القويم». وما أحسن ما ختم به الفيلالي حين دعا إلى أخذ هؤلاء الشباب بضوابط المصلحة الوطنية وتربيتهم على «روحية الحوار» (...) «كما أشاد بذلك الإمام محمد حسن فضل الله في كتابه القيم «الحوار في القرآن».