مولاي التهامي بهطاط
خلال الأيام القليلة الماضية، عرضت قناتان فرنسيتان برنامجين وثائقيين مشوقين، رغم اختلاف مضمونهما.
الأول قدمته قناة "تي أم سي" ضمن إحدى حلقات "90 دقيقة تحقيقات"، وخصصته للجريمة في منطقة سان تروبيه السياحية، بينما كان الثاني من تقديم قناة "فرانس 3"، وهو عبارة عن سيرة ذاتية مصورة لولي العهد البريطاني الأمير تشارلز.
متابعة القنوات الفرنسية ليس من باب تبعية المهوزم للمنتصر، وإنما اعتراف بإبداع الإعلام المحترف بعض النظر عن كونه خاصا أو عموميا، خاصة في يتعلق بالبرامج الإخبارية والوثائقية، التي تمكن المشاهد المغربي على وجه الخصوص، من تعويض "الغبن" الذي يشعر به وهو يتابع -مكرها لا بطلا- بعض الإسفاف الذي تقدمه قنواتنا العمومية بل تبيعه لمشاهديها رغم أنوفهم، وتتقاضى مقابله عدا ونقدا من جيوب دافعي الضرائب، هذا دون الإشارة إلى الملايير التي تقتطعها كدعم مباشر من الحكومة لتأجيل إفلاس أصبح في حكم الواقع.
صحيح أن المقارنة بين ما عندنا وما عند الآخرين يدخل في حكم "العبث" لأنه لا قياس مع الفارق الكبير في الإمكانيات وخصوصاً في العقليات، لكن هذا لا يمنع من التطلع بين الفينة والأخرى إلى الضفة الشمالية، على الأقل لقياس المسافة التي أصبحت تفصلنا عن "عصر الأنوار".
إلى ذلك، فعند مشاهدة البرنامجين المشار إليهما، حضرت صورة المغرب في الخلفية بشكل أو بآخر، ما تطلب تسجيل الملاحظات التالية.
بالنسبة للبرنامج الأول الذي تطرق لتدخلات الأمن والقضاء ضد مختلف مظاهر الانحراف التي تعرفها شوارع منطقة سان تروبيه (شاطئ الآزور) خاصة خلال موسم الاصطياف حيث تكون قبلة لآلاف السياح من مختلف الأصقاع، وأغلبهم أغنياء بطبيعة الحال.
ما يهمني هنا هو أن الكاميرا التي رافقت دوريات رجال الدرك في كثير من تحركاتها، سجلت عدة تدخلات عنيفة دون أن تثير أدنى تعليق.
فالمواطن الذي كان في حالة سكر طافح بالشاطئ تم إرغامه على المغادرة، بل خيره الدركي بين الانسحاب من المكان أو "جرجرته" إلى المخفر، وهو أمر غير مفهوم في دولة القانون، لأنه إذا كان قد ارتكب جريمة فعليه دفع الحساب، وإذا كان يمارس حقا من حقوقه فلا مجال للتضييق عليه، لكن الأمر هنا متروك لـ"السلطة التقديرية" المطلقة للدركي.
وهناك لقطة أخرى لشاب كان في حالة "نشاط زائد"، وأدخل إلى غرفة الاحتجاز، لكنه رفض خلع قميصه كما يقضي بذلك القانون، فلم يكتف الدركيان بتعنيفه، بل مزقا القميص قبل خلعه بالقوة وبإصرار...وكل ذلك والكاميرا "شاعلة"...ما لا يحتاج منا إلى طرح سؤال من قبيل : ما الذي يمكن أن يجري في حالة مماثلة عندما تكون "الكاميرا طافية"؟
أما قاضي محكمة سان تروبيه، فهو قصة تستحق أن تنضاف إلى نوادر الجاحظ عن القضاة.
من بين الملفات التي نظرها هذا القاضي قضية توبع فيها سائق كان يقود سيارته وهو في حالة سكر طافح، حيث أسمعه القاضي محاضرة عن مخاطر السياقة تحت تأثير الكحول والفظائع التي يعاينها هو شخصيا جراء المجازر التي يرتكبها سائقون مستهترون، وكل ذلك بأسلوب جارح.
وعندما تأكدت محامية الضنين بأن الرياح تجري عكس مصلحة موكلها، طلبت التأجيل، وهو ما أجابها إليه القاضي العجوز، فحدد تاريخ الجلسة التالية بعد شهر بالتمام والكمال، لكن مع التنصيص على متابعة المتهم في حالة اعتقال، وهو ما فسره معدو البرنامج الوثائقي بأنه "خطوة علاجية" في مواجهة السائق المدمن الذي لن يجد طيلة ثلاثين يوما سائلا يشربه غير ماء "الروبيني".
الملف الثاني الذي يستحق أن نتوقف عنده، هو ذاك الذي عُرض خلاله ثلاثة مراهقين على السيد القاضي الذي ترك الشكل والمضمون، وتفرغ لأحد المتهمين فأشبعه "انتقادا" لاذعا، بل منعه من الكلام وهدده في حالة النطق بكلمة واحدة أن يحيله على النيابة العامة بتهمة "إهانة هيئة الحكم"...أما السبب فهو أنه مثل أمام المحكمة بسروال قصير "شورط".
القاضي العجوز خرج عن طوره، وأرغى وأزبد، وقال مخاطبا المتهم بأن الصورة كانت ستكون أجمل لو أن القاضي نفسه حضر الجلسة بملابس الشاطئ، قبل أن يعلن تأجيل المحاكمة بعد توجيه وعيد شديد للمتهم في حال لم يحضر الجلسة الموالية بملابس محترمة.
ماذا أقول بعد هذا؟
رجال الأمن والدرك عندنا أصبحوا اليوم، حتى عند التدخل لاعتقال منحرف يرهب الناس وهو في حالة هستيرية، يحسبون ألف حساب لـ"القناصة" المتربصين بالهواتف النقالة المزودة بكاميرات تنقل ما تلتقطه مباشرة إلى شبكة الأنترنيت، فضلا عن صحافة تعتبر القوة العمومية "معتدية" حتى لو كان تمارس دورها في حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم.
أما قضية اللباس فتلك مسألة أخرى، لأنه لن تستطيع إدارة ولو كانت في مستوى محكمة أن تلزم المتعاملين معها باحترام حد أدنى من اللياقة على مستوى المظهر، بل من يجرؤ مثلا على مجرد لفت انتباه "مقزب" أو "مقزبة" إلى الفرق بين الإدارة والكباريه؟ فمن المؤكد أن ضجة ستقع بدعوى الدفاع عن "الحريات" بل قد يتهم أي مسؤول يبدي ملاحظة على المظهر الخارجي لأي مواطن بأنه "إخواني"، وهذا علما أن فرنسا نفسها فيها مقاهي وملاهي يشترط لدخولها التوفر على ربطة عنق..
فهل تجاوزنا الفرنسيين في "انفتاحهم" و"حداثتهم"؟
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، فقد انشغلت الصحافة والرأي العام المحلي في مدينة نيس الفرنسية قبل أيام بقضية العاهرة الفرنسية البالغة من العمر 58 سنة، والتي اعتادت استقبال زبنائها في شارع يكثر عليه الإقبال، والتي تابعتها الشرطة بتهمة "التحريض السلبي" بدعوى أن تنورتها قصيرة وملابسها مثيرة، لكن القاضية برأتها على اعتبار أن هناك شابات يلبسن ما هو أقصر..
هذا هو الوجه الآخر لفرنسا التي نعرفها فقط كبلد للتحرر والانفلات..
أما تحقيق القناة الثالثة، عن حياة الأمير تشارلز، وبالقفز على كل معطيات الشكل والمضمون، فإن المشاهدين المغاربة على الخصوص، ربطوا تلقائيا بين طقوس حفل الولاء التي مازال ضجيجها يملأ شبكة الأنترنيت، وبين بعض الطقوس التي تعتمدها بريطانيا أم الديموقراطية.
أسجل بداية أنني لست بصدد الدفاع عن مراسيم السجود والركوع، ولا يهمني أصلا أن أشارك في سجال بلغ درجة الإسفاف، ولكنها مفارقة لا يمكن القفز عليها.
ففي إنجلترا التي لا يجادل أحد في كونها مهد الديموقراطية، هناك طقوس في غاية الغرابة تتعلق بتتويج الملك الجديد وكذا بافتتاح جلسات مجلس العموم، والعجيب أن الجميع متمسك بهذه التقاليد "الكاريكاتورية" بل إن هناك إصرارا شعبيا وحكوميا وبرلمانيا على التعايش معها...
ولا أدري لماذا خامرني خاطر يقول إن بعض المتعرضين على طقوس الولاء عندنا قد يدعون لصاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية بطول العمر، لأنه إذا وافتها المنية في مستقبل قريب، فسيتابع العالم أجمع، وعلى الهواء مباشرة طقوس تتويج "الملك شارل الثالث"، والتي ستبدو معها عاداتنا وأعرافنا أكثر حداثة من عادات وأعراف بريطانيا العظمى.
إن التحليل العلمي لهذه المعادلة يكمن في أن الإنجليز ركزوا على الأهم، وهو ديموقراطية برلمانية حقيقية، وحكومة قوية منتخبة مباشرة من طرف الشعب، ولا ضير بعد ذلك في الاحتفاظ ببعض الطقوس الفولكلورية، بينما العكس هو ما يحدث في المغرب، حيث يتم التركيز على المظاهر الخارجية التي يمكن أن تنتهي في أية لحظة، لأن المسألة مسألة إرادة سياسية في نهاية المطاف، بينما المهم والأهم لا مكان لهما، لأن الباحثين عن الأضواء يملكون فقط شعارات فضفاضة، وكلاما كبيراً الهدف منه "الصخب" ولا شيء غير الصخب.
لماذا لم يركز البريطانيون على "الشكليات"، وفضلوا الاحتفاظ بالملكية كمرجعية موحدة، ولو للأغلبية على الأقل؟
لأن التجربة الديموقراطية علمتهم الاستغلال الأمثل للحظات التاريخية المفصلية في تعديل ميزان القوة الذي ظل راجحا طيلة عقود لفائدة ملكية مهيمنة.
إن الذين يملأون الدنيا ضجيجا هذه الأيام حول المسائل الشكلية، ينجحون في شيء واحد على الأقل، ألا وهو النزول إلى الحد الأدنى بسقف المطالب الحقيقية لمن يسعون إلى ديموقراطية حقيقية.
ولا أبالغ إذا قلت إن الحراك الشبابي الذي عرفه المغرب في السنة الماضية ساهم من حيث لا يدري في إجهاض الانتقال الديموقراطي الذي طال انتظاره. فبدل ترك الأمور تنضج بشكل طبيعي، اعتقد البعض أن "الديموقراطية" مثل التقليعات الغنائية أو قصات الشعر التي يمكن تقليدها بسهولة، والحال أن حركات المجتمعات بطيئة، وحتى حين تتسارع في لحظات تاريخية معينة، فإنها تحتاج إلى تضافر كثير من المصادفات لتنتج ثمارها المنتظرة.
بكل أسف، ساهم الحراك الشبابي في تنفير الشعب من الشارع، ونجح في المصادرة على كثير من أحلام التغيير، لأن المواطن لم ير نفسه في هذه الحركات، التي سمحت لكثيرين بالركوب عليها من "اليساريين" إلى "الأصوليين"، لتبقى في النهاية عبارة عن "جزر" معزولة تبحث عن مناسبة لافتعال ضجة، بشعار خارج السياق هنا، وإحراق صورة هناك..
لقد كان البريطانيون أذكياء للغاية، حين فضلوا استرجاع السلطة الحقيقية وترك الطقوس البروتوكولية المتوارثة على ما هي عليه، بينما انشغل "مناضلونا" بكل ما هو تافه وقنعوا من المعركة بشعارات لم تتخط أسوار باب الحد..
touhami69@hotmail.com
مولاي التهامي بهطاط
الأربعاء 26 شتنبر 2012 - 19:23
خلال الأيام القليلة الماضية، عرضت قناتان فرنسيتان برنامجين وثائقيين مشوقين، رغم اختلاف مضمونهما.
الأول قدمته قناة "تي أم سي" ضمن إحدى حلقات "90 دقيقة تحقيقات"، وخصصته للجريمة في منطقة سان تروبيه السياحية، بينما كان الثاني من تقديم قناة "فرانس 3"، وهو عبارة عن سيرة ذاتية مصورة لولي العهد البريطاني الأمير تشارلز.
متابعة القنوات الفرنسية ليس من باب تبعية المهوزم للمنتصر، وإنما اعتراف بإبداع الإعلام المحترف بعض النظر عن كونه خاصا أو عموميا، خاصة في يتعلق بالبرامج الإخبارية والوثائقية، التي تمكن المشاهد المغربي على وجه الخصوص، من تعويض "الغبن" الذي يشعر به وهو يتابع -مكرها لا بطلا- بعض الإسفاف الذي تقدمه قنواتنا العمومية بل تبيعه لمشاهديها رغم أنوفهم، وتتقاضى مقابله عدا ونقدا من جيوب دافعي الضرائب، هذا دون الإشارة إلى الملايير التي تقتطعها كدعم مباشر من الحكومة لتأجيل إفلاس أصبح في حكم الواقع.
صحيح أن المقارنة بين ما عندنا وما عند الآخرين يدخل في حكم "العبث" لأنه لا قياس مع الفارق الكبير في الإمكانيات وخصوصاً في العقليات، لكن هذا لا يمنع من التطلع بين الفينة والأخرى إلى الضفة الشمالية، على الأقل لقياس المسافة التي أصبحت تفصلنا عن "عصر الأنوار".
إلى ذلك، فعند مشاهدة البرنامجين المشار إليهما، حضرت صورة المغرب في الخلفية بشكل أو بآخر، ما تطلب تسجيل الملاحظات التالية.
بالنسبة للبرنامج الأول الذي تطرق لتدخلات الأمن والقضاء ضد مختلف مظاهر الانحراف التي تعرفها شوارع منطقة سان تروبيه (شاطئ الآزور) خاصة خلال موسم الاصطياف حيث تكون قبلة لآلاف السياح من مختلف الأصقاع، وأغلبهم أغنياء بطبيعة الحال.
ما يهمني هنا هو أن الكاميرا التي رافقت دوريات رجال الدرك في كثير من تحركاتها، سجلت عدة تدخلات عنيفة دون أن تثير أدنى تعليق.
فالمواطن الذي كان في حالة سكر طافح بالشاطئ تم إرغامه على المغادرة، بل خيره الدركي بين الانسحاب من المكان أو "جرجرته" إلى المخفر، وهو أمر غير مفهوم في دولة القانون، لأنه إذا كان قد ارتكب جريمة فعليه دفع الحساب، وإذا كان يمارس حقا من حقوقه فلا مجال للتضييق عليه، لكن الأمر هنا متروك لـ"السلطة التقديرية" المطلقة للدركي.
وهناك لقطة أخرى لشاب كان في حالة "نشاط زائد"، وأدخل إلى غرفة الاحتجاز، لكنه رفض خلع قميصه كما يقضي بذلك القانون، فلم يكتف الدركيان بتعنيفه، بل مزقا القميص قبل خلعه بالقوة وبإصرار...وكل ذلك والكاميرا "شاعلة"...ما لا يحتاج منا إلى طرح سؤال من قبيل : ما الذي يمكن أن يجري في حالة مماثلة عندما تكون "الكاميرا طافية"؟
أما قاضي محكمة سان تروبيه، فهو قصة تستحق أن تنضاف إلى نوادر الجاحظ عن القضاة.
من بين الملفات التي نظرها هذا القاضي قضية توبع فيها سائق كان يقود سيارته وهو في حالة سكر طافح، حيث أسمعه القاضي محاضرة عن مخاطر السياقة تحت تأثير الكحول والفظائع التي يعاينها هو شخصيا جراء المجازر التي يرتكبها سائقون مستهترون، وكل ذلك بأسلوب جارح.
وعندما تأكدت محامية الضنين بأن الرياح تجري عكس مصلحة موكلها، طلبت التأجيل، وهو ما أجابها إليه القاضي العجوز، فحدد تاريخ الجلسة التالية بعد شهر بالتمام والكمال، لكن مع التنصيص على متابعة المتهم في حالة اعتقال، وهو ما فسره معدو البرنامج الوثائقي بأنه "خطوة علاجية" في مواجهة السائق المدمن الذي لن يجد طيلة ثلاثين يوما سائلا يشربه غير ماء "الروبيني".
الملف الثاني الذي يستحق أن نتوقف عنده، هو ذاك الذي عُرض خلاله ثلاثة مراهقين على السيد القاضي الذي ترك الشكل والمضمون، وتفرغ لأحد المتهمين فأشبعه "انتقادا" لاذعا، بل منعه من الكلام وهدده في حالة النطق بكلمة واحدة أن يحيله على النيابة العامة بتهمة "إهانة هيئة الحكم"...أما السبب فهو أنه مثل أمام المحكمة بسروال قصير "شورط".
القاضي العجوز خرج عن طوره، وأرغى وأزبد، وقال مخاطبا المتهم بأن الصورة كانت ستكون أجمل لو أن القاضي نفسه حضر الجلسة بملابس الشاطئ، قبل أن يعلن تأجيل المحاكمة بعد توجيه وعيد شديد للمتهم في حال لم يحضر الجلسة الموالية بملابس محترمة.
ماذا أقول بعد هذا؟
رجال الأمن والدرك عندنا أصبحوا اليوم، حتى عند التدخل لاعتقال منحرف يرهب الناس وهو في حالة هستيرية، يحسبون ألف حساب لـ"القناصة" المتربصين بالهواتف النقالة المزودة بكاميرات تنقل ما تلتقطه مباشرة إلى شبكة الأنترنيت، فضلا عن صحافة تعتبر القوة العمومية "معتدية" حتى لو كان تمارس دورها في حماية أرواح المواطنين وممتلكاتهم.
أما قضية اللباس فتلك مسألة أخرى، لأنه لن تستطيع إدارة ولو كانت في مستوى محكمة أن تلزم المتعاملين معها باحترام حد أدنى من اللياقة على مستوى المظهر، بل من يجرؤ مثلا على مجرد لفت انتباه "مقزب" أو "مقزبة" إلى الفرق بين الإدارة والكباريه؟ فمن المؤكد أن ضجة ستقع بدعوى الدفاع عن "الحريات" بل قد يتهم أي مسؤول يبدي ملاحظة على المظهر الخارجي لأي مواطن بأنه "إخواني"، وهذا علما أن فرنسا نفسها فيها مقاهي وملاهي يشترط لدخولها التوفر على ربطة عنق..
فهل تجاوزنا الفرنسيين في "انفتاحهم" و"حداثتهم"؟
ومن باب الشيء بالشيء يذكر، فقد انشغلت الصحافة والرأي العام المحلي في مدينة نيس الفرنسية قبل أيام بقضية العاهرة الفرنسية البالغة من العمر 58 سنة، والتي اعتادت استقبال زبنائها في شارع يكثر عليه الإقبال، والتي تابعتها الشرطة بتهمة "التحريض السلبي" بدعوى أن تنورتها قصيرة وملابسها مثيرة، لكن القاضية برأتها على اعتبار أن هناك شابات يلبسن ما هو أقصر..
هذا هو الوجه الآخر لفرنسا التي نعرفها فقط كبلد للتحرر والانفلات..
أما تحقيق القناة الثالثة، عن حياة الأمير تشارلز، وبالقفز على كل معطيات الشكل والمضمون، فإن المشاهدين المغاربة على الخصوص، ربطوا تلقائيا بين طقوس حفل الولاء التي مازال ضجيجها يملأ شبكة الأنترنيت، وبين بعض الطقوس التي تعتمدها بريطانيا أم الديموقراطية.
أسجل بداية أنني لست بصدد الدفاع عن مراسيم السجود والركوع، ولا يهمني أصلا أن أشارك في سجال بلغ درجة الإسفاف، ولكنها مفارقة لا يمكن القفز عليها.
ففي إنجلترا التي لا يجادل أحد في كونها مهد الديموقراطية، هناك طقوس في غاية الغرابة تتعلق بتتويج الملك الجديد وكذا بافتتاح جلسات مجلس العموم، والعجيب أن الجميع متمسك بهذه التقاليد "الكاريكاتورية" بل إن هناك إصرارا شعبيا وحكوميا وبرلمانيا على التعايش معها...
ولا أدري لماذا خامرني خاطر يقول إن بعض المتعرضين على طقوس الولاء عندنا قد يدعون لصاحبة الجلالة الملكة إليزابيث الثانية بطول العمر، لأنه إذا وافتها المنية في مستقبل قريب، فسيتابع العالم أجمع، وعلى الهواء مباشرة طقوس تتويج "الملك شارل الثالث"، والتي ستبدو معها عاداتنا وأعرافنا أكثر حداثة من عادات وأعراف بريطانيا العظمى.
إن التحليل العلمي لهذه المعادلة يكمن في أن الإنجليز ركزوا على الأهم، وهو ديموقراطية برلمانية حقيقية، وحكومة قوية منتخبة مباشرة من طرف الشعب، ولا ضير بعد ذلك في الاحتفاظ ببعض الطقوس الفولكلورية، بينما العكس هو ما يحدث في المغرب، حيث يتم التركيز على المظاهر الخارجية التي يمكن أن تنتهي في أية لحظة، لأن المسألة مسألة إرادة سياسية في نهاية المطاف، بينما المهم والأهم لا مكان لهما، لأن الباحثين عن الأضواء يملكون فقط شعارات فضفاضة، وكلاما كبيراً الهدف منه "الصخب" ولا شيء غير الصخب.
لماذا لم يركز البريطانيون على "الشكليات"، وفضلوا الاحتفاظ بالملكية كمرجعية موحدة، ولو للأغلبية على الأقل؟
لأن التجربة الديموقراطية علمتهم الاستغلال الأمثل للحظات التاريخية المفصلية في تعديل ميزان القوة الذي ظل راجحا طيلة عقود لفائدة ملكية مهيمنة.
إن الذين يملأون الدنيا ضجيجا هذه الأيام حول المسائل الشكلية، ينجحون في شيء واحد على الأقل، ألا وهو النزول إلى الحد الأدنى بسقف المطالب الحقيقية لمن يسعون إلى ديموقراطية حقيقية.
ولا أبالغ إذا قلت إن الحراك الشبابي الذي عرفه المغرب في السنة الماضية ساهم من حيث لا يدري في إجهاض الانتقال الديموقراطي الذي طال انتظاره. فبدل ترك الأمور تنضج بشكل طبيعي، اعتقد البعض أن "الديموقراطية" مثل التقليعات الغنائية أو قصات الشعر التي يمكن تقليدها بسهولة، والحال أن حركات المجتمعات بطيئة، وحتى حين تتسارع في لحظات تاريخية معينة، فإنها تحتاج إلى تضافر كثير من المصادفات لتنتج ثمارها المنتظرة.
بكل أسف، ساهم الحراك الشبابي في تنفير الشعب من الشارع، ونجح في المصادرة على كثير من أحلام التغيير، لأن المواطن لم ير نفسه في هذه الحركات، التي سمحت لكثيرين بالركوب عليها من "اليساريين" إلى "الأصوليين"، لتبقى في النهاية عبارة عن "جزر" معزولة تبحث عن مناسبة لافتعال ضجة، بشعار خارج السياق هنا، وإحراق صورة هناك..
لقد كان البريطانيون أذكياء للغاية، حين فضلوا استرجاع السلطة الحقيقية وترك الطقوس البروتوكولية المتوارثة على ما هي عليه، بينما انشغل "مناضلونا" بكل ما هو تافه وقنعوا من المعركة بشعارات لم تتخط أسوار باب الحد..
touhami69@hotmail.com