محمد بن امحمد العلوي
لقد أذهلتني هذه الجملة الرائعة من رواية العمى للكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998،فتجرأت على اتخاذها عنوانا بارزا لقراءتي لهذه الرواية المنشورة سنة 1995 و التي تحكي عن استشراء العمى في مدينة ما مجهولة الاسم مثل طاعون عاصف أصاب المدينة بأكملها،تبدأ رحلة الوباء برجل يصاب بعمى أبيض أثناء قيادته لسيارته إذ بدأ يرى كل شيء أبيضا ومشعا،ينقلونه لعيادة أحد الأطباء الذي لم يجد تفسيرا علميا لهذا العمى،ثم ما يلبث الطبيب نفسه أن يفقد بصره وتتوالي الإصابات.
بحيث يهجم عمى أبيض و مشع يعم المجتمع فيمنعه من الرؤية، عمى غريب و رهيب ينتج عنه هيجان و تكالب على السلطة و الحياة بأساليب جشعة و خشنة ووحشية.ولن نستغرب هذا المسلك من قِبَلِ قلوب أقل ما يمكننا وصفهم بها هو القسوة في فرض السيطرة و التحكم الجائر على عميان لا يرون في ضياء النهار ، الكاتب هنا يصرح بأن الأنانية المتحكمة في التصرف و السلوك هي التي تفرض قواعد ظالمة و من يخالف هذه القاعدة الجائرة يتم منعه من الأكل و ضروريات الحياة، فما أقسى هذه الفلسفة.
وما معنى أن تظل إمرأة واحدة فقط هي المبصرة كما صورها الروائي جوزيه ساراماغو الروائي البرتغالي المدافع عن الحق في الحياة بكرامة ؟ إنها بلا شك رمز الإستمرارية والمداومة وهي التربة الغنية و كان لزاما على الكاتب المبدع أن يمتعها وحدها بنعمة البصر فهي الأم و الأخت و البنت .فهي ترى مسوخآ من الطغيان و الجبروت لا يشفع ولا ينفع ولا يغني ولا يسمن من جوع ،فها هو العمى يضرب ضربته فينتقل المجتمع من شكله الإنساني المعطاء إلى شيء آخر لا يمت بصلة إلى البشرية المتفانية في التعاون و التكافل. فالمرأة المبصرة ترى الكثير من المشاهد التي لا يستطيع أن يراها العميان ،فهاهي ترى السرقة و الزنى و الإستبداد و الإستغلال فيقشعر لهذه المناظر جسدها و تصدم روحها إنها ترى جثث متعفنة في الطريق و مرضى يتألمون .
و لا يسع هذه المرأة الصابرة سوى البكاء و مزيدا من البكاء على مصير أبناء جلدتها و ما أصابهم من عمى البصيرة بالطبع ،وهنا لابد أن أقف بك وقفة عقل و إدراك و نظرة ثاقبة لما حاول الروائي جوزيه ساراماغو أن يظهره لنا ،فالعمى الذي يتكلم عنه هو تعبير صارخ عن الجهل الذي يجعل الإنسان يتخلى على أكبر نعمة وهبها الخالق إنها البصيرة و الرؤية الانسانية التي تمكنه من الإستمرار و التقدم. فالجهل عمى أبيض يغفل صاحبه عن محيطه وواقعه و ينتحر في خضم من الظلمات لا يستطيع الفكاك منه،و في الرواية ملمس جدي لما تمر به مجتمعاتنا من محن و هزائم و تدهور سببها العمى الأبيض – الجهل .
و ينقلنا سراماغو إلى منحى آخر من المفارقات العجيبة بإظهار ذلك القلق الذي يصيب شابة عمياء زانية على والديها و كيف تبدل جهدها من أجل الإطمئنان عليهم و تطمئنهم عليها ،فالبذرة هنا طيبة لكن التربة التي وجدت الفتاة نفسها بداخلها هي الفاسدة .و الحب في السرد الروائي عند سراماغو أعمى فعندما تسترد الفتاة بصرها و ترى العجوز التي أحبته قبيح الشكل و المنظر تتركه، فالحب المبني على جهل بالأخلاق و المبادئ و الجمال لابد من التخلي عليه دون أسف و بلا رجعة.
عندما يختفي النظام والرقابة يتحول البشر إلى وحوشٍ بشرية عمياء لا تتوقف عند مبدإ أو مسلك أخلاقي رفيع،فتنقطع الكهرباء و يتوقف ضخ المياه فتعم الفوضى في المدينة العمياء و تنتشر الأوساخ و الأمراض و الجثث .فكيف في أتون هذه الفوضى يمكنك رؤية الصواب؟ فحاسة الشم في هذا الظرف لن تفيد في شيء بل ستساعد في زيادة التيه عن معالم الوجود و الإستقرار تماماً.
فهوية الإنسان تتجلى في صميم رؤيته للواقع و تفاعله معه و خلقه لبيئة ملائمة للعيش ببصيرة و علم،فعندما يختتمالروائي ساراماغو روايته بأن يعيد للناس أبصارهم،فيسيرون مبتهجين في الشوارع ومحتفلين بعودتهم إلى حظيرة المبصرين.هنا تعلق المرأة التي ظلت مبصرة على هذا الحدث بقولها:
( أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى.. لم نكن حقا نرى ! ) وفي الحين يبرز الوقت المثالي للتفكير في الحيز المكاني الذي يجمعنا و المدى الزمني الذي نعيشه ، ألا يستحق أن نبذل جهدنا لنعيشه بعشق و بكثير من الإسترخاء حتى لا يدمر بعضنا البعض بفعل عمل أهوج جاهل و أعمى ؟
إن العمل الروائي الذي أتحفنا به جوزيه ساراماغو لم يأت من فراغ، وإنما هو امتداد للواقع الذي عايشه و المتأثر بطبيعة القضايا السياسية والإجتماعية المكونة لعناصر الحياة المحيطة به، هذه العناصر التي تمثل هموماً عامة تمس قطاعات عريضة من البشر، والتي تفاعل معها الروائي فأنتج عملا فذا لن ينقرض أبدا .فانحطاط كائن الإنسان إلى ما تحت الحيوانية و فقدان المدنية كل مقومات وجودها الجمالية هي ما حاول الكاتب بحبكة روائية مدهشة هنا الكشف عنها بالإطلالة عما يختبئ داخل غابات النفس البشرية.
الرواية تكشف الجانب المظلم من طبيعة الإنسان عندما يصاب بالعمى الذي ينتشر داخل المدينة فيطفو إلى السطح زيف الحضارة و مدى تدمير العمق الإنساني الفعال و الحقيقي في خضم من السرعة في اتجاه المصلحة الشخصية و الأنانية. و من هنا نضع أيدينا على رواية عابرة للزمان و المكان فاتحة الباب على معان و إشارات للخلود و الحكمة.