كانت نظرية المؤامرة theorie du complot ومازالت آلية أصولية من آليات القراءة المتولدة عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة باعتبارها منتوجا قحا من منتوجات العجرفة الثقافية والعقائدية والسياسية، ولذلك نجد أن المؤمنين بنظرية المؤامرة يمارسونها في قراءتهم وفي سلوكهم العملي باستمرار من منطلق أنها صالحة لكل زمان ومكان، وأنها مفيدة لذوي العجرفة في أي موقع كانوا، فإن كان المؤمن بهذه النظرية يمتلك القوة والشروط الموضوعية والذاتية، فإنه يتحرك وفق آليات نظرية المؤامرة، من منطلق أنه يتعرض للمؤامرة من أجل إسقاطه من حصانته وتهديم حصونه وغزو مواقعه وغنم موارده، أما إذا كان المؤمن بنظرية المؤامرة مجروما وضعيفا فإنه يتحرك من منطلق أن المتآمرين عليه يترصدونه باستمرار، وينسفون جهوده الجبارة التي يحاول بها تغيير موقعه وتقوية ضعفه، وعليه فإن كل ما يقع يكون نتيجة لضربات ومكائد ومخططات وألاعيب " المتآمرين" .
وبذلك تصير مشجبا لتعليق كل زيف، ذلك الزيف التي تعطى له صور ومعاني ودلالات وشخصيات لإخراجه من صورة الوهم والأسطرة وإلباسه لباس الحقيقة الملموسة والظاهرة والمتحركة، ليس على مستوى الأفراد فحسب، إنما على مستوى الأمم والشعوب والدول والأحزاب والديانات، وإذا ما التفتنا إلى المسألة في التاريخ المعاصر، ربما يكون الاتحاد السوفياتي ورجاله ونساؤه وحزبه الواحد ودبلوماسيته من السباقين إلى تفعيل نظرية المؤامرة والعمل بها على المستويين الداخلي والخارجي، وهو ما أثر في رفاقنا اليساريين على المستوى العالمي والعمل بها في شتى الميادين، وما يستغرب له هو أن الرفاق استطاعوا الجمع بين نظرية ماركسية تقوم على النقد والتحليل والتعليل والدراسة الموضوعية والمادية لكل ما يقع في العالم، وبين نظرية المؤامرة القائمة على الوهم والتخييل والأسطرة والتعلق الدائم بألوان قوس قزح، لكن غياب الديمقراطية والتعددية التي تسمح بفرز الأصوات والموازنة بينها كان يحتاج إلى مشجب لتعليق الإحباطات والهزيمة النابعة من الأصولية الماركسية القائمة على الحزب الواحد والرأي الأحد والفرد السياسي الصمد، فكانت نظرية المؤامرة بمثابة مشجب للتعليق، إذ لم يكن الشيوعيون يعترفون بقابلية الهزيمة بالمسؤولية عما يمارسونه في سياساتهم واقتصادهم واجتماعهم، فكل ما يحدث يتم تفسيره وقراءته بأنه مكيدة غربية ومؤامرة أمريكية وبورجوازية تستهدف ضرب غريمها السياسي في الحرب الباردة.
ولما أينعت ثمار القومجيين العرب وآن قطافها تم الإنزال الدقيق والقوي لنظرية المؤامرة كداعم عقائدي لمرتكز تضخم الأنا القومية المشبعة بالإحساس بالتفوق والاستعلاء، ومزودها الرئيس هو بئر البداوة الذي لا ينضب، ولا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى ملاحظة تتعلق بالموضوع وهي للسوسيولوجي العراقي الراحل علي الوردي في قوله: "....من دلالات البداوة أنه في الزمن المعاصر إذا دخل العرب حربا عزوا النصر فيها إلى أنفسهم، وإذا انهزموا بحثوا عن عامل خارجي كالاستعمار والخونة...."، ويمكننا القول في هذا الصدد إن نظرية المؤامرة تقوم على بكتريا الاستعلاء وفيروس الخواء، حيث يتصور صاحب النظرية بأنه يملك شيئا مقدسا ومعظما يجعله مستهدفا باستمرار من لدن من يعارضه ولا يوافقه، كما أن هذه الممارسة من زاوية علم النفس المرضي تغدو آلية دفاعية لتبرير وتسويغ الخواء المهول الذي يعاني منه صاحبه، والذي أودى به للنكسة والهزيمة.
ولاشك أن الحركات السياسية والفكرية التي آمنت وعملت بنظرية المؤامرة كانت على اختلاف مشاربها تلتقي في الذهنية الأصولية التي تؤمن بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتنفي وترفض الفكرالنقدي التعددي والآليات الديمقراطية، وهكذا تمسكت الحركات الشيوعية والقومجية والمتأسلمة ومنظروها بنظرية المؤامرة لأنها وجدت فيها لياقة على مستويات متعددة، منها تغليف الخواء الديمقراطي الذي تعاني منه بأغلفة الاستهداف، كما أن آليات التسويغ التي تقدمها نظرية المؤامرة بسخاء لأصحابها تتعارض بالمطلق مع شروط التأهيل المنهجي التي تقتضي الفرضية والتحليل والتعليل والتفكيك والمقارنة والموازنة، والنقد والتجاوز والانفتاح الرافض للتصلب، ولعل الأخطر في كل هذا هو صباغة نظرية المؤامرة لدى الحركات والأحزاب المتأسلمة بصباغة القداسة، وعنونتها بالعناوين الإلهية الأمر الذي جعل من نظرية المؤامرة غطاء مقدسا لتغطية العري الثقافي الديمقراطي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي ظلت الأصوليات المتأسلمة تتخوف من انكشافه أمام الجميع.
ذلك ما درجت عليه الأصوليات المتأسلمة في تفسيراتها لكل ما يقع، فكل مظاهر المدنية والحضارة الغربية والحداثة والديمقراطية كانت حسب المتأسلمين مؤامرة على الإسلام والمسلمين الأمر الذي ولد لنا (جاهلية القرن العشرين) والتي ولدت لنا بدورها ممارسات صدامية تتأرجح بين منطلقات الدفاع والهجوم " لصد المؤامرات الغربية الزاحفة..." وشرعنتها بالنص القرآني" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم".فكان الإرهاب إذن آلية من آليات صد المؤامرة، كما أن الدعوة إلى تحرير المرأة وإعطائها حقوقها والدعوة إلى مساواتها اعتبر مؤامرة تستهدف "تفسيخ الأسرة" و"نشر الرذيلة" و"ضرب المرأة المسلمة"، ولذلك نال كمال أتاتورك نصيبه في هذا الإتجاه من الطعن والضرب والسب والقذف فضلا عما ناله قاسم أمين عن كتاباته الداعية إلى تحرير المرأة، ولم نستغرب حينها أن يجيش حزب "العدالة والتنمية" وحركاته الموازية والأفقية والعمودية الشوارع والمساجد والجامعات ضد "الخطة الوطنية..." لأنها حسب ظنهم كانت مؤامرة، وحينما انتشرت الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية في الدول الإسلامية..." كانت مؤامرة لنشر الإلحاد في الجامعات وفي مؤسسات الدولة والمجتمع..." ولذلك لم يكن من مواجهة لهؤلاء سوى الضرب والتكفير والتقتيل والتهجير، فتم اغتيال مهدي عامل وحسين مروة وتهجير أركون ونصر حامد أبو زيد، كما تم تجييش الطلبة داخل الجامعات والثانويات " لتطهيرها من الإلحاد الماركسي".
ولما طالبت الحركات الأمازيغية في شمال إفريقيا بضرورة إقرار الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية كانت هذه الحركة المطلبية بمثابة " مؤامرة" حسب المتأسلمين والقومجيين تستهدف محو لغة القرآن، وضرب الثقافة العربية القرشية، و"تقسيم المجتمع لزرع الطائفية وتقسيم المجتمع...".
ولما كانت العسكرتاريا في تونس وليبيا ومصر واليمن....تخنق مجتمعاتها كانت تلك مؤامرة أمريكية ضد شعوب المنطقة، ولما أسقطت انتفاضات الربيع الديمقراطي تلك العسكرتاريا الحاكمة، كانت تلك أيضا مؤامرة، ولما كانت الحركات المتأسلمة في هذه الدول مستبعدة من العمل السياسي الحزبي الشرعي ومستبعدة من الحكم السياسي، كانت تلك مؤامرة "تستهدف الإسلام والمسلمين " ولاستئصال حركاتهم السياسية، ولما فتحت هذه الحركات المتأسلمة الحوار مع أمريكا التي كانت تعتبرها شيطانا عبر سفاراتها وخارجيتها وأجهزتها الاستخباراتية، وبفضل هذه المشاورات" الأمريكو متأسلمة"، ترشحت أحزابها للانتخابات، وتم تسليمها الحكومات في بعض الدول، كان ذلك أيضا " مؤامرة لتوريط المتأسلمين في ورطة فساد الحكم إلى جانب العسكر وسماسرة الفساد ، والعمل على تسويد بياض عباءاته" حسب قراءات المتأسلمين وتأويلاتهم الظاهرية والباطنية، وهو ما مارسته حكومة بنكيران نظريا وعمليا بشكل حرفي، فوجود " حزب العدالة والتنمية": في المعارضة كان " مؤامرة لإبعادهم عن إمساك مقاليد الحكومة ونفيهم من تسيير الوضع وفق حكومة الخلافة الراشدة....."، ولما تم تسليمهم زمام الحكومة، كان هذا التسليم لقيادة الحكومة " مؤامرة، فقد أشاعت وأذاعت أبواق السيد بنكيران ما ظهر منها وما بطن، بأن مكمن المؤامرة هو تنصيب حكومة الظل الحقيقية المزاحمة للحكومة الملتحية...، هكذا تطول أمعاء نظرية المؤامرة، وتتناسل زوائدها الدودية، كلما استمرت القراءات الأصولية للأحداث، حتى وإن كانت متعارضة، فالمشتكي من الخواء والاستعلاء في حالة ضعفه يبكي ويئن من شدة المؤامرة، وفي حالة قوته يزمجر ويهدد ويضرب لأنه "معرض للمؤامرة".