|
|
|
|
|
أضيف في 31 يوليوز 2012 الساعة 08 : 12
في الواقع لابد من الإقرار بان النموذج في نظام الحكم و الممارسة السياسية لكل مجتمع إنما يقوم علي سياقه التاريخي وواقعه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، و من هنا التأكيد على أن تنظيم العلاقة بين الدين والدولة والسياسة ينتظم داخل أبعاد تاريخية وسياقية عميقة لكل مجتمع و ليس بالضرورة في نموذج محدد و قابل للتصدير إلا في جزئيات ضيقة . و هذا الفهم ينسحب حتى على النظم الغربية، المقبولة بصورة شائعة اليوم كنظم علمانية و المتميزة ومتعينة بتاريخ وسياقات تاريخية و سياسية متباينة. و بخصوص التجربة المغربية الضاربة في عمق التاريخ و المتفاعلة مع المكتسبات المتنوعة عرقيا و فكريا و عقائديا ، فلابد من الوقوف مليا على إحدى مستلزمات التنظيم السياسي و الاجتماعي داخل المجتمع المغربي . و هنا نتحدث على البيعة كمؤسسة و إطار مفاهيمي تتأسس علية بنية الدولة المغربية منذ أمد بعيد . و لابد من البحث أولا على المحدد الدلالي و السياق التاريخي لمفهوم البيعة ، ثم نستخلص الخصوصيات المميزة لهذا المفهوم داخل البنية الدينية و السياسية في الدولة المغربية ، و نبحث ثالثا عن موقعها داخل البنية المهيكلة للدستور المغربي .
البيعة مفهوما و تاريخا
يعتبر عقد البيعة الطريقة الشرعية التي تقرر بها الأمة مصيرها السياسي، البيعة في أصل دلالتها اللغوية مصدرٌ يُفيد معنى المبايعة، يُقال بايع فلان الخليفة مبايعة التي تقضي معنى المعاقدة والمعاهدة، تشبيها بعملية البيع الحقيقي، وكأن كل واحد من رئيس الدولة والمواطن قد باع ما عنده للآخر، وتعاهدا وتعاقدا على أن يؤدي كل من الطرفين للآخر ما عنده، فرئيس الدولة يعاقد ويعاهد الأمة على أن يحكم بالحق والعدل، وأن يرعى أحكام الشريعة، ويصون مبادئ الدين، وأن يوفر للمواطن حقوقه الإنسانية وحرياته وحماية مقتضيات عيشه و تامينها .في حين يقوم المواطن نيابةً عن ذاته بالتعبير عن طاعته لرئيس الدولة ويتعهد بنصرته في حماية مصالح الأمة والدفاع عن حقوقها وكرامتها. و الأصل في البيعة، بيعـة العقبة التي كانت بمكـة حيث بايع الأنصار الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ثم بيعـة الرضوان تحت الشجـرة التي كانت بعدها بنحـو ست سنوات ، و بموجبها يتم انتخاب الحاكم الذي ترتضيه على اساس والطاعة في المعروف. إذن هنا نحن امام عقد فيه عنصري الايجاب و القبول التي تُفيد معنى الالتزام المتبادل، بحيث يمنح كل فريق للفريق الآخر ما عنده، فالفريق الأول يعرض فكرة الالتزام والثاني يقبل، ويمنحه الطاعة والنصرة. و كأي عقد لابد ان تتوافر في البيعة جميع الشروط التي يجب توافرها في العقود العامة من أركان و شروط عامة أو خاصة. وأركان عقد البيعة هم: 1 العاقدان وهما طرف العقد متكونان من الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد، والحاكم. 2 المعقود عليه الحفاظ على نظام الحكم و تطبيق مقتضيات العقد. 3 صيغة العقد بألفاظ تعبر عن ماهيّته.
وترتبط البيعة بمسألة الرئاسة والسيادة في الدولة الإسلامية، والحياة السياسية للمسلمين وقد عظم الله من شأنها في القرءان الكريم و هدد كل من ينكث ببنودها باعتبارها حامية للاستقرار و الأمن الروحي و المادي للمجتمع .
الخصوصيات المميزة
باعتبار أن الدولة في عمومها تمثل هيكلا متداخلا من السلطات والمؤسسات التي تتغيى حفظ الأمن العام والقضاء، وتعمل على توفير الخدمات بجميع تجلياتها من صحة وتعليم و تحصيل الضرائب وضبط الإنفاق العام. ومن هنا فالدولة تمثل الجانب الأكثر استقرارا و حكمة في عمليات الحكم، من خلال مبادئ وآليات الحكم الدستوري، وحماية حقوق الإنسان وعدم التمييز بين جميع المواطنين. و يعتبر نظام البيعة في تقاليد الدولة المغربية وأعرافها مرتكزا لا غنى عنه في تثبيت مبدأ الحقوق والواجبات المتبادلة بين السلطان او الملك و عموم الشعب من اجل تحقيق الأبعاد السامية في العدل والإنصاف. ومن هنا يمكن اعتبار مؤسسة البيعة داخل الدولة المغربية اتى تلبية لفكرة و حاجة اجتماعية لدى المغاربة بتشكيلاتهم المختلفة و المتنوعة خلقت لديهم شعورا بالاختلاف و التميز تجاه الآخرين .و هذا ما اضطرهم إلى الدفاع عنها لأنها اصبجت تعبيرا عن وجودهم و دورهم الاجتماعي و السياسي و الحضاري .و البيعة تتميز بالطابع إلالزامي باعتبارها ميثاق سياسي وقانوني يجمع بين الإمام والأمة ،هذه الالتزامات التي يجب ان يحرص طرفي العقد على احترامها وأي خلل فيها يؤدي إلى المساءلة والمحاسبة. و باعتبار البيعة في النظام السياسي المغربي أساسها الثقة المتبادلة بين الملك و الشعب وهدفها الحفاظ على استمرارية الدولة بإقرار السلم والعدالة، فإن هذه الثقة تحركها مساطر وإجراءات لازمة و ضرورية لتحقيق أهدافها . و من تم فمؤسسة البيعة بصيغتها المغربية المتداولة اليوم تعمل على تحقيق و تجدير الهوية الوطنية المغربية، فالبيعة في التجربة السياسية المغربية تستند الى عقد مكتوب يكتسي صبغة تعاقد ، و تتميز الصيغة المغربية بأن يقوم من قدَّم البيعة بتحرير عقد إقرارهم بالطاعة ثم يختمونه بتوقيعهم وهو ما يجعل عقد البيعة يكتسي قيمة رمزية كبيرة داخل النظام السياسي المغربي. و عقد البيعة الذي يضمن شرعية وجود الملك ويحقق شرعية بقائه على رأس الدولة ،يؤسس في نفس الآن لحق الطاعة والنصرة المفروضان على الأمة لأميرها. وهكذا فإن هذا العقد يتضمن حقوقًا والتزامات بين الأمة و أميرها و تعاقد يتم من خلاله تبادل الطاعة التامة مقابل انجاز مجموعة من الأهداف المتعلقة بالصالح العام ،فإمارة المؤمنين بدلالتها الدينية و مؤسسة الملك السياسية قامتا تاريخيا بالمغرب على بيعة مشروطة بين الأمير او الملك و الشعب،إذن فالحفاظ على استمرارية الدولة و حماية المواطنين من كل ما يهدد وجودهم المادي و الروحي هي من أسمى واجبات الإمام و قد تحملها بمقتضى عقد البيعة. و لقد شكلت البيعة المشروطة للسلطان عبد الحفيظ التي كتبت بفاس إرهاصا لميثاق دستوري انتفى تكوينه ووجوده بحصول نظام الحماية .
البيعة و الدستور
يمثِّل عقد البيعة في النظام السياسي المغربي ركنا أساسيا بالنسبة للنظام الدستوري الذي يؤسس لدور الملك كمكوِّن شرعي وحامي للنّظام الاجتماعي و لتحقيق البيئة الملائمة للممارسة السياسية ،و يقرّ بالمقابل للمواطنين حقوقًا والتزامات يمكنهم ممارستُها بشكل يكفل حالة المواطنة بجميع تمفصلاتها . وباعتبار البيعة تعاقد فهي على هذا الأساس تسمح بالانتقال من حالة من الارتباك السياسي و التنظيمي إلى التعبير الحقيقي عن النضج و الوعي بإلزامية البحث عن الوسيلة القمينة بتحقيق مجتمع مدني يقبل فيه كل طرف إزاء الطرف الآخر بالتنازل عن حكم نفسه بنفسه ليضع كل سلطته في يد رجل واحد يصبح مالكا بذلك للسيادة. و هذا يجعلنا ننظر في البعد القانوني للبيعة بالاستعانة بنظرية الماوردي القاضية بكون التفويض الذي يتلقاه الإمام بمقتضى البيعة لا يحق تكليف الآخرين به، و إلا أدى إلى حل رباط البيعة بغض النظر على إمكانات ممارسته لفعل المراقبة على من يفوضهم للنيابة عنه . و ذلك نتيجة الاختلاف التراتبي مابين سلطة ذات طابع معياري وسلطة حكومية تابعة لتجنب تفويت التفويض للإمام النابع من عملية البيعة، فالسلطة الملكية بهذا الفهم تكون تحكيمية و مشرفة تراتبيا وبصفة إلزامية على كل السلطات التابعة لها .و لقد تمكنت مؤسسة البيعة ان تثبت أصالتها و تصمد عبر التاريخ ،من أن تجد مكانًا لها في الإطار المفاهيمي المنقول عن النظام الدستوري المعاصر .رغم أن الدساتير المغربية لم تتضمن ركن البيعة كأساس لشرعية نظام الحكم، لكنها لم تغب كمؤسسة و ممارسة في عملية انتقال الحكم في المغرب ،إلا أن الفصل 19 في جميع الدساتير يحيل عليه بتنصيصه على مؤسسة إمارة المؤمنين و ما تمثله دينيا وسياسيا،إذ أن الحديث عن إمارة المؤمنين يعني التأكيد المباشر على نظامي الشورى والبيعة،و يبقى رسوخ مبدأ البيعة و استمراريته حتى بعد التنصيص في الفصل 20 من الدستور على طريقة انتقال الحكم. و هذا ما تؤكده مراسيم البيعة للملك محمد السادس التي تمت في نفس يوم وفاة أبيه الحسن الثاني وقبل دفنه، هذه العملية التي شاركت فيها هيئة سياسية واسعة تمثل أهل الحل والعقد حسب الفهم الحديث .و قد أعطيت لهذه البيعة أهمية كبيرة سواء بالطريقة التي تمت بها أو بالنسبة لأهمية العناصر المشاركة فيها، لتزيد هذه المؤسسة ترسخا في المنظور الثقافي والسياسي المغربي على مر العصور كفكر سياسي و ممارسة محورية في النظام المغربي المتجدر في التاريخ،مفادها تأكيد وتوثيق للولاية الثابتة بحكم الاستخلاف المنصوص عليه دستوريا.ومن هذا المنطلق فالبيعة ميثاق سياسي وقانوني يجمع بين أمير المؤمنين والأمة و ترتب حقوقا والتزامات على الطرفين . ومؤسسة البيعة متماشية مع وثيقة دستورية تضمن الانتقال من محورية الفرد الحاكم إلى نظام المؤسسات في اتجاه تطوير التعاقد السياسي الذي يربط الحاكم بالمحكومين .
خاتمة
و أخيرا يمكن اعتبار البيعة عقدا بل معيارا بكل ما في الكلمة من معنى تتربع فوق قمة تراتبية المعايير و سابقة على النص الدستوري. هذه المؤسسة تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية و السياسية التي تؤديها و من مصالح الجماعة المرتبطة بها. كما أن بناءها المؤسس على التعاقد بين الحاكم و المحكوم يضفي على البيعة مضمونا قانونيا صرفا، بالرغم من تعرض هذا المضمون إلى إشكالات متعلقة بالاعتبارات السياسية بالدرجة الأولى والتي تجعل منها طريقة ترتبط وبشكل جوهري بمشروعية وممارسة الحكم . و التجربة المغربية التاريخية تتحدد عبقريتها في تحديات تحديث الشورى و في تطوير الديمقراطية بعقلية تداولية ،و سيكون من دواعي الغفلة والسطحية في التحليل إسقاط احتمالات النكوص والارتداد في الممارسة السياسية على مفهوم البيعة بشكل مجرد كما سيكون من دواعي السذاجة السياسية عدم التيقظ الحاد والكامل لإكتشاف إمكاناتها الكبيرة في خلق بيئة ملائمة للممارسة السليمة للعملية السياسية في إطار من الثبات على القيم في تواز مع إنضاج الآليات الديمقراطية وتطويرها
|
|
2757 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|