مقالة رقم 3
بقلم بليبط رضوان: 29 7 2012
لمحة تاريخية
ليس من الهين الحديث عن تأريخ لعلم السيميائيات،فالعلم متشعب منذ بداياته الباكرة، وهو أرض تتلاقى فوق سطحها مجموعة من الحقول المعرفية ،من فلسفة و لسانيات ومنطق وأيضا علم النفس والأنثربولوجيا و الدلالة و التداولية. . ولاشك أن الإنسان قد تأمل في العلامات منذ مراحله الجنينية الأولى،وقبل أن يتم بناء" برج بابل" مع ما يحوم حول هذه الأسطورة من شكوك،فقد "علم الله آدم الأسماء كلها" (1 ) ومن الأكيد أن آدم تلقى" من ربه كلمات" (2 )،فالنظرة الدينية تظهر بجلاء أن مصدر الأسماء و الكلمات إلاهي .
لكن هناك من يرى أن بداية التأمل في السلوك الإنساني وفي العلامات كان فلسفيا،فهذا أفلاطون في مرحلة نضج الفكر اليوناني" يتأمل في محاورة (كراتيلوس ) أصل اللغة" (3 )، وفي اللغة الأفلاطونية يلوح مصطلح "سيميوطيقا" بجوار مصطلح" نحو" الذي كان يعني حينئذ تعلم القراءة و الكتابة،مندمجا مع الفلسفة أو فن التفكير،ويبدو أن السيميوطيقا الإغريقية كان هدفها تصنيف علامات الفكر أو جرد مدلولات الفكر بصفة فلسفية شاملة. أما المعلم الأول"أرسطو" فنجده "يولي عناية بالأسماء في كتابيه (فن الشعر )و (عن التأويل )" (4 ) . ثم نلفي الفيلسوف"اينيديموس" وهو أحد أعلام المدرسة الإغريقية "الشكية"،ينظم ويضم كل المبادئ البحثية في عشر صيغ مستقاة من تحليل العلامات،وفي دراسة الطب الأمبريقي (التجريبي ) نجد الفيلسوف الطبيب "أمبريكوس" يقوم بتصنيف للعلامات المستترة،أما الطبيب "كالينوس" فقد ميز بين العلامات العامة (التي تدل على أكثر من شيء ) والعلامات الخاصة (التي تدل على شيء محدد ) .
وهناك من يرى أن الرواقيين (5 ) هم أول من بنى نظرية في العلامات (6 ) ، بل إن رشيد بن مالك يذهب إلى حد القول إن الرواقيين هم أول من قال بأن للعلامة دالا و مدلولا (7 ) ،وقد"حدثت واحدة من أبرز المناظرات حول العلامات في العالم القديم بين الرواقيين و الأبيقوريين في أثينا (300 ق.م ) تمثلت نقطة الجدال الكبرى في الاختلاف بين (العلامات الطبيعية ) التي تحدث تلقائيا في الطبيعة و (العلامات العرفية ) المخصصة للتواصل على وجه الدقة" (8 ) .
بعد ذلك نقف عند محطة بارزة في تاريخ العلامات حينما أقدم الفيلسوف أوغسطين على التمييز بين "العلامات الطبيعية والعلامات التواضعية،وكذلك تمييزه بين وظيفة العلامات عند الحيوانات وعند البشر" (9 ) .
ورغم كل الدراسات التي اعتنت بالعلامات والتي ذكرنا هاهنا أكثرها أهمية ولو بكيفية مختصرة،فان مصطلح "سيميوطيقا" قد اختفى لمدة طويلة حتى لانكاد نجده سوى في دراسة مهمة للفيلسوف الإنجليزي جون لوك ،لكن دلالته لم تتعد تلك التي وردت في الفلسفة الأفلاطونية (10 ) .
أما صاحبا قصب السبق وحاملا مشعل التأسيس الحقيقي فهما لا ريب السويسري فرديناند دي سوسير (11 ) و الأمريكي شارلز سنديرس بيرس (12 ) وإن اختلفت منطلقاتهما ومرتكزاتهما،نظرا لعدم علم أحدهما بمشروع الآخر،وهو الأمر الذي نتغيا عنه إماطة اللثام، فكيف نظر كل من سوسير و بيرس إلى" السيميائيات "؟
ذلك ما سنحاول الوقوف عنده في المقالة القادمة...
الهوامش:
(1 ) سورة البقرة،الآية31 .
(2 )نفسه، الآية 37 .
(3 ) أقدم لك علم العلامات،بول كوبلي و ليتسا جانز،ترجمة جمال الجزيري،ط1، 2005، ص10.
(4 )نفسه.
(5 )المدرسة الرواقية كان يتزعمها زينون.
(6 )جوليا كريستيفا، النشاط السيميوطيقي،ص62 .
(7 )رشيد بن مالك،السيميائية أصولها وقواعدها،مراجعة و تقديم عز الدين مناصرة،د.ط،2002 ،منشورات الاختلاف،نقلا عن فيصل الأحمر،معجم السيميائيات، منشورات الاختلاف،ط1،2010،ص23 .
(8 ) أقدم لك علم العلامات،م م،
(9 )منذر عياشي،العلاماتية وعلم النص،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاءالمغرب،بيروتلبنان،ط1 ،2004 ،ص 14 .
(10 )Bernard toussain,qu’est ce que la sémiologie
نقلا عن نور الدين الرايص،محاضرات في السيميائيات، ألقيت على طلبة الماستر بكلية ظهر المهراز،فاس،المغرب.
فرديناند دي سوسير<18571913>: (11 )
ولد بجنيف في عائلة أكاديمية،لنا بلغ التاسعة عشرة ذهب لدراسة اللغات في جامعة ليبزيج ،وبها نشر بعد عامين بحثا عنوانه"النظم البدائية للأصوات المتحركة في اللغات الهندوأوربية"،بعد حصوله على رسالته اتجه صوب المدرسة العملية للدراسات العليا بباريس؛حيث سيدرس اللغة السنسكريتية واللغة الألمانية العليا القديمة واللغة الغوطية.في عام 1906 كُلف بتدريس علم اللغة العام بجامعة جنيف،وهي مهمة لم يقم بها من قبل،وتناول فيها موضوعا لم ينشر حوله كتابا أثناء حياته،وقد رأى تلامذته (بالي ،سيشهاي )أن دروسه كانت مبتكرة جدا،لذلك جمعوها ونشرت عام 1916 تحت عنوان "محاضرات في اللسانيات العامة"
(12 ) شارلز ساندرس بيرس<18381914>:
ولد في عائلة أكاديمية راقية في كمبريدج ماساشوستس،عمل في هيئة مساحة الأرض والسواحل الأمريكية،كان مدرسا للمنطق بجامعة جونز هوبكنز قبل أن ينهي أمناء الجامعة وظيفته لعدم رضاهم على أسلوب حياته العائلية.رغم ذلك خلف بيرس مجموعة كبيرة من من الكتابات،جمعها محرروا أعماله في ثمانية مجلدات.
يتبع إنشاء الله