د. أشرف الصباغ
لقد تم تأجيل تنفيذ السيناريو الليبي والسوري في مصر لأجل غير مسمى. ومع ذلك يبقى المشهد السياسي والاجتماعي هشا ومشوشا. والفضل في التأجيل يعود لا للمجلس العسكري ولا لجماعات الإسلام السياسي، بل يعود بالدرجة الأولى لطبيعة المجتمع المصري الذي لا يعرف أحد كيف تعمل هرموناته الذهنية والجسدية إلى الآن.
حادثتان مخيفتان وقعتا في القاهرة والسويس في وقت واحد تقريبا. الأولى، مقتل شاب مصري أثناء سيره في الشارع مع خطيبته على يد 3 من الملتحين. وقيام وزير الداخلية المصري بتبرير القتل وتحميل القتيل المسؤولية، لأنه لم يعتذر للقاتلين الذين تدخلوا في شأنه الخاص وحريته الشخصية. لن نتحدث عن أن القتلة من المسجلين خطر، ولن نتحدث أيضا عن انتمائهم لجماعات ما هي كثيرة الآن في مصر. المسألة ببساطة تتعلق بمبدأ الحريات الشخصية. فالقتلة أعطوا لأنفسهم الحق في الاقتراب من شاب يسير في الشارع مع خطيبته والتدخل في حياتهما الشخصية. هذا هو كل ما في الأمر. والقتل وقع تحت هذا البند. والأخطر أن وزير الداخلية ألقى بتهمة القتل على القتيل، وهي خطوة معيبة وخطيرة، لأن الوزير يريد أن يقول للمصريين: "عليكم أن تسيروا خائفين مرعوبين مطيعين، وعليكم أن تعيشوا جبناء مهددين صامتين". أي ببساطة لا شئ اسمه حرية شخصية أو عامة، ولا شئ اسمه حياة مواطن أو دم مواطنة. أما الحادثة الثانية، فهي اعتداء رجال الشرطة على المحامين في قسم مصر الجديدة، وقيام عناصر الشرطة بإطلاق المحتجزين لمساعدتهم في قمع المحامين. ودلالات هذا العمل المعيب والإجرامي متعددة التأويلات والتفسيرات.
إذن، لمن يخضع وزير الداخلية في مصر؟ ولمن يخضع رجال الشرطة في مصر؟ وما هي وظيفة الرئيس المصري "المؤقت"؟ إن المسؤول الأول عن هاتين الحادثتين هو رئيس الدولة – رئيس السلطة التنفيذية الذي وعد المصريين بحمايتهم وإعلاء كرامتهم والدفاع عن حياتهم العامة والخاصة. غير أن المدهش على خلفية الحادثتين هو أن الرئيس أنشأ "ديوان المظالم" والتسمية نفسها تعيدنا مئات السنين إلى الوراء. فبدلا من تسييد القانون لإحقاق الحق، نشرع على الفور بإنشاء "دواوين" مثيرة للشفقة قبل الضحك. وبدلا من العفو الرئاسي العام عن أكثر من 12 ألف معتقل وسجين، نشكل لجنة تقصي حقائق ويبقى الوضع على ما هو عليه.
قد تكون المقدمة طويلة نسبيا، ولكنها تمهيد ضروري لتصريحات نائبة رئيس المحكمة الدستورية العليا المستشارة تهاني الجبالي حول ضرورة استقالة الرئيس المصري محمد مرسي العياط من منصبه حال إقرار الدستور. هذا التصريح له علاقة بالواقع وبالقانون وبالتقاليد الدستورية والتشريعية. فالقواعد الدستورية المتعارف عليها عالمياً تقضي بأن إقرار أي دستور جديد يلغي كل ما كان قائم ومعتمداً علي الدستور السابق، ما يعني إعادة تشكيل جميع المؤسسات سواء كانت منتخبة مثل المجالس النيابية ومؤسسة الرئاسة، بما فيها الرئيس، أو قائمة بالتعين مثل الجهات التنفيذية كالحكومات. ومعنى ذلك أن الرئيس العياط مؤقت مثل الإعلان الدستوري المكمل الذي جاء على أساسه ويحكم به. لقد أعلن الرئيس المصري المؤقت أن إقرار الدستور والاستفتاء عليه وإجراء الانتخابات التشريعية، كل ذلك سيتم قبل نهاية عام 2012. ولكنه لم يتحدث عن انتخاب رئيس للدولة وفقا للدستور الجديد. علما بأن الجمعية التأسيسية لوضع الدستور لم تتشكل بعد، ما يثير علامات استفهام كبيرة. وفي ذات الوقت نلاحظ التحركات المريبة لجماعات الإسلام السياسي التي تتسم بالسرعة والتعجل في تسييد أنماط اجتماعية وثقافية وفكرية خاصة بها. بل وبنشاط محموم لمقاومة أي تقدم في مجال الحريات والإبداع. بينما القضايا الاقتصادية والاجتماعية بمعناها الواسع تؤجل ويتم التحايل عليها باللجان والقرارات الخرقاء. ونلاحظ أيضا تحركات مريبة من جانب مؤسسات القوة في الدولة العميقة التي لم يهتز لها جفن منذ 25 يناير 2011 ولا تزال تتصرف بثقة مفرطة تجاه الجميع، ما عدا جماعات الإسلام السياسي.
من الواضح أن معركة كتابة الدستور المصري ستكون أقسى بكثير من كل الأحداث التي مرت بها مصر خلال العامين الأخيرين. ومن الواضح أن المواجهات بين الدولة العميقة وجماعات الإسلام السياسي تخضع لا لعوامل داخلية، بل لعوامل خارجية تمسك بخيوطها الأساسية الإدارة الأمريكية المدعومة أوروبيا وخليجيا. فالخارج يراهن على هذه الجماعات وفقا لسيناريوهاته التي تحقق مصالحه. ولكنه في الوقت ذاته يصرف الرواتب الشهرية لقوى الدولة العميقة، وعلى رأسها جنرالات المؤسسة العسكرية. والآن يجري تسريب معلومات مفادها أن الرئيس المصري يمكن أن يغتال على أيدي جماعة الإخوان المسلمين أو الجماعات الأخرى، لأنه بدأ يبتعد عنها وقد يقوم بمواجهات معها. هذا الكلام المثير للسخرية جزء من حملة لصناعة شخصية الرئيس الجديد الذي لم ينفذ أي من وعوده إلا بإنشاء ديوان المظالم، بينما وافق على الإعلان الدستوري المكمل وحل مجلس الشعب. وهما الأمران الرئيسيان اللذان خرج المصريون ضدهما. ولكن بعد تولي الرئيس منصبه تخلت جماعاته والجماعات الأخرى عن بقية المصريين والقوى السياسية لتنسحب انسحابا منظما!
وبعيدا عن التفاصيل والغرق والاستغراق فيها، فالدستور الجديد يجب أن يطيح بالرئيس الحالي. بل ويمكن أن يعلن أن "الدين الرسمي للدولة هو الإسلام" كصيغة عامة وتوافقية للمادة الثانية. ويؤسس لدولة "علمانية" حديثة. وأن تبدأ انتخابات تشريعية ورئاسية جديدة وفقا للدستور الجديد. بهذه الصيغة يمكن أن نقول أن مصر تجاوزت الأزمة ونرى الوزن الحقيقي لكل من جماعات الإسلام السياسي والدولة العميقة. ولكن العكس يمكن أن يحدث، وسيحدث بالفعل، لأن هذا السيناريو تحديدا لا يروق للإدارة الأمريكية ولا للعسكر أو الإخوان. غير أن من يريد أن يربح مصر وشعبها هو الذي سينضم إلى هذا السناريو.