فتاوى التكفير وجرائم القتل بسببها كثيرةٌ في المشرق العربي، وهي مُوجهةٌ في الغالب للمفكرين والصحفيين والزعماء السياسيين الحاملين لمشروع فكري حديث. واحدة منها أدت إلى قتل فرج فودة، وأخرى أدت إلى الشروع في ذبح نجيب محفوظ...الخ . وفي امتداد هذه الفتاوى نسمع القرضاوي يصيح حاليا مُحلا الدماء في كل اتجاه، منزلا الفتوى إلى درجة من الابتذال السياسي غير مسبوق.
أما في المغرب فأخطر فتوى عرفها العصر الحديث هي التي أصدرتها الشبيبة الإسلامية ونفذتها في 18 دسمبر 1975. لقد قُتل عمر بن جلون، رحمه الله، لسبب واحد ووحيد وهو شروعه في إعادة صياغة المشروع الاشتراكي لردم الهوة التي تعمقت بين حزب القوات الشعبية وبين شباب الحركة الماركسية الناشئة.
تلتقي فتوى نهاري مع فتوى قتل عمر بن جلون في عدة أمور:
أولاها أنهما أُنضِجتا فوقَ منابر المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، وبغض الطرف من بعض ممثليها، ثم صيغتا في حلقة تنظيمية ضيقة من أجل مباشرة التنفيذ: سُلمتِ الفتوى الأولى من يد عبد الكريم مطيع إلى خليةٍ عمالية سرية فنُفذت، ووُضعت الثانية رهن إشارة المتطوعين على شبكة الأنتيرنيت، وهذا تاكتيك جديد أتاحته التكنولوجيا الحديثة، ومنهجية اختارتها القاعدة. وبذلك يكون نهاري قد خطا خطوة إلى الأمام بالخروج من حلقية الفتوى إلى تعميمها لتصير فتنة اجتماعية من حيث عدد المُجرمين المحتملين والضحايا المستهدفين. ومن هذه الزاوية يلتحق عمله بعمل شيوخ السلفية الجهادية الذين حوكموا بعد انفجارات الدار البيضاء 2003. الفرق الوحيد الآن هو المرور إلى الفعل، أما المحتوى فقد تفوقت فيه فتوى نهاري على كل ما سبقهان وذلك باعتمادها التصريح وتحديد الضحية: اقتلوا فلانا بعينه. الذي أتمناه أنا هو أن يؤدي التدخل الأمني والقضائي الحازم إلى الحيلولة دون وقوع المكروه، والمسؤولية ملقاة على عاتق الجميع.
من الغريب ان يقول نهاري ــ حسب ما نقلته الصحافة ــ أن ما قاله ليس فتوى، وأنه لم يهدر دم الصحفي الغزيوي! هذا النفي يصادم الحس العام السليم الذي أجمع على إدانته، ويصادم قواعد الخطاب. فمن أقوى الحجج الخطابية المرصودة للإقناع في مثل هذا المقام وأشهرها "القياس المضمر"، ويسمى أيضا القياس الخطابي، والضمير. وهو قياس يقوم على حذف إحدى المقدمتين أو النتيجة اعتمادا على السياق. وتطبيقه على كلام نهاري يعطي النتيجة التالية:
1ـ الغزيوي ديوث [حسب تصوره وتدليسه]
2ـ الديوث يقتل شرعا [حسب تدليسه]
3ـ النتيجة: الغزيوي يقتل شرعا
وقد شَفعَ الخطيبُ هذا القياس بالتحريض مؤكدا أن الإنسان يعيش حياة واحدة، أي أن جبنه عن تطبيق هذا الأمر لن يطيل عمره، وهذه بداية غسل أدمغة الشباب المؤمن المتحمس العاجز عن كشف مغالطات المكفرين.
ليست هذه هي المرة الأولى التي خرج فيها نهاري إلى التعيين، لقد فعل ذلك مع الوزيرة نزهة الصقلي، فأوقف عن الخطبة، وخرج أتباعه وقاموا بوقفة أمام المسجد مرددين الشعارات، وخطب زعيمهم فقال في الوزيرة من معاني التكفير والتفسيق ما تعلموه من شيخهم.
(وأفتح هنا قوسا لأقول لهؤلاء الشباب ــ وإن كنت متأكدا من أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون ــ إن القياس المضمر يسمى قياسا خطابيا، وليس منطقيا بالمعنى الصوري الرياضي، لأن مقدماته ظنية، تحتمل الصدق والكذب. ومقدمتا نهاري كاذبتان. فما قاله هو ليس هو ما قاله الغزيوي بالحرف، وما قدمه على أنه حديث ليس حديثا، بشهادة أصحابه. والحدود لا يقطع فيها بما هو ظني، بل لا تقطع حتى بحديث الآحاد مثل الذي يعتمده الفزازي في قتل المرتد).
نعود في آخر هذا البيان لنقول: إذا كان نهاري، وأمثال نهاري، من الخطباء (هو يصرح بأنه ليس عالما ولا مفتيا)، يختزلون القضاء بكل درجاته، ويصلون مباشرة إلى إصدار أحكام الإعدام، فما حاجزتنا بكل هذا الهيكل القضائي الذي ننفق عليه الملايير، ونسعى لتحقيق استقلاله عن كل السلط...الخ.
وإذا كانت الملشيات التي تتحلق حول نهاري، وحول أمثاله من الشيوخ، قادرة على فرض سلطتها في احتلال الفضاءات والتهديد بالويل والتبور لمن يمس شعرة منه (كما نقرأ في المواقع الإلكتورنية)، فما حاجتنا لكل هذه الأجهزة الأمنية السرية والعلنية؟
وإذا كان نهاري وأمثاله قادرين على تحديد الطريقة التي يجب على المغاربة أن يعبدوا الله بها، أو لا يعبدوه، فما معنى أن نعيش في القرن 21؟! ولا نريد أن نخوض في علاقتهم المعقدة بالمؤسسة الدينية الرسمية، فذلك جزء من المشكل.
الخوارج داء أصيبت به البلاد الإسلامية من بداية تكوينها السياسي، وهو داء سيستمر، وسيسبب خسارات الله وحده أعلم بحدودها. وعلة عللهم الوهم بأنه من الممكن العيش خارج التاريخ، خارج التطور.
رابط مقال عن قتل عمر بن جلون http://medelomari.perso.sfr.fr/benjalloun.