|
|
|
|
|
أضيف في 28 يونيو 2012 الساعة 13 : 18
عرض: محمد الخولي
يجمع الكاتب أيان موريس في هذا الكتاب بين البعد الزمني (التاريخي) والبعد المكاني (الجغرافي) في إطار منظور متداخل يطل من خلاله على تطور الحياة البشرية منذ عصر إنسان الكهوف إلى العصر الحديث، ومنه إلى نظرة مستقبلية يستشرف فيها آفاق الحقبة القريبة المرتقبة من تطور عالمنا، وذلك في حدود السنوات الأربعين المقبلة التي يصفها الكتاب بأنها ستكون الأهم (في نظر المؤلف طبعا) في تاريخ العالم، وخاصة في ضوء ما توصلت إليه البشرية من إبداعات في مجال الحاسوب الالكتروني وكائنات الذكاء الاصطناعي (الروبوت) وهو ما سيضفي تأثيراته على حياة الناس في المستقبل، تماما كما تأثرت الحياة والحضارات الإنسانية في أزمنة سبقت بقدرة الناس على التوصل إلى «السفينة» التي استطاعت منذ 500 سنة أن تمخر عباب المحيط، وأمكنها أن تحمل على متنها قوماً من أوروبا: من البرتغال وإسبانيا ثم من انجلترا وفرنسا، وأوصلتهم إلى ربوع الصين واليابان في أقصى شرق العالم ومن ثم كانت سيطرة، أو سيادة الغرب على الشرق الذي لم يتوصل إلى مثل هذه الوسيلة. على الرغم مما سبق إليه هذا الشرق في مضمار الحضارات القديمة ما بين وادي النيل في مصر أو بلاد ما بين النهرين في العراق، أما في تحليل المرحلة الراهنة والمراحل الوشيكة المرتقبة فالكتاب يركز على أهمية التفاعل بالسلب والإيجاب بين أهم كيانين في عالمنا الراهن، وهما الولايات المتحدة والصين
هذا الكتاب بالغ الطموح، صحيح أنه أدار موضوعه الأساسي حول محور الغرب، بمعنى شمال العالم الأوروبي والأمريكي بطبيعة الحال، لكن الأصح هو أن المؤلف، وهو أستاذ جامعي متميز، عمد إلى توسيع رقعة الزمان التي يتناولها بقدر ما عمد إلى تضييق، أو فلنقل تحديد، رقعة المكان. من هنا فقد توسعت مطامع هذا الكتاب كي تشمل حكاية 50 ألف سنة من عمر الزمن، هي المساحة الزمنية التي يرى المؤلف أن قد نشأت في سياقها تلك الكيانات التي أصبح يصدق عليها مصطلح الغرب. على أن المؤلف عمد بالذات إلى مزج المنظورين الجوهريين معا، منظور المكان (الجغرافيا) ومنظور الزمان (التاريخ)، ومن خلال هذا المنظور الجديد، «الزمكاني» كما قد نسميه، أطّل البروفيسور أيان موريس على موضوعه الذي اختاره لهذا الكتاب، وهو: سيادة الغرب على مقاليد عالمنا. وهي ظاهرة تستدعي بحكم التعريف أسئلة جوهرية عديدة، ومنها مثلا: كيف كانت هذه السيادة، وماذا كانت أنماطها وأشكالها؟ ولماذا انفرد الغرب بهذه السيادة ردحاً لا بأس به من عمر عالمنا وخاصة في العصر الحديث؟ ثم ماذا كانت حال المنافسة، ومن كانوا منافسي هذا الغرب على تلك السيادة؟ إن الأبواب الأساسية الثلاثة من كتابنا تطرح كل هذه التساؤلات وتحاول، طبعا، الإجابة عنها على مدار الفصول الاثني عشر التي يتألف منها متن هذا الكتاب، إضافة إلى مقدمة إضافية (في 36 صفحة) وتذييل واف (في 23 صفحة).
لندن عاصمة عالمها
وبغير أن نشغل أنفسنا بحديث عن أزمنة سحيقة، بعضها سابق على تاريخ الإنسانية المعروف والمكتوب، نستطيع أن نبدأ مع المؤلف من عام 1777 للميلاد وبالتحديد مع عبارات الدكتور صمويل جونسون وهو واحد من أعلام الأدب الإنجليزي وقد قال فيها: في لندن نشاهد ما يريده المرء من هذه الحياة. وكان المعنى على نحو ما يعلق مؤلف هذا الكتاب - أن لندن في تلك الأيام من أواخر القرن الثامن عشر كان فيها كل شيء، المعمار الفاخر، البضائع على آخر طراز في تلك الفترة طبعا تملأ واجهات المحلات، الأناقة التي لا ينكرها أحد في ملابس سيدات ذلك الزمان، وفي عبارة واحدة يخلص مؤلفنا إلى ما يلي: «لندن في تلك الحقبة كادت تكون عاصمة العالم، لماذا؟ كان التجار يضيعون ساعات من فراغ طويل ولذيذ يحتسون القهوة في أماكن خلعوا عليها لأول مرة اسم، النوادي، وحتى الفقراء كانوا يصفون الشاي بأنه أمر «ضروري ولا غنى عنه» فما بالك وقد كانت زوجات المزارعين شغوفات بشراء آلات، البيانو، لزوم العزف الموسيقي في الأمسيات، لا عجب أن جاء مثقف من أسكتلندا شمالي إنجلترا - ليصدر في تلك الفترة كتابا يصف فيه الإنجليز بأنهم أمة من «أصحاب الدكاكين»، وكان بذلك يمتدح الإنجليز، وقد قارنهم ذلك المثقف الاسكتلندي بأهل الصين الذين طالما نعموا بثراء بلادهم ورخاء حياتهم إلى أن استسلموا إلى صراعات بين الفقراء والموسرين فكان أن تحولت الصين من الثراء إلى الفقر. والحاصل أن اشتهر الكاتب الاسكتلندي المذكور، وذاعت أيضا شهرة كتابه الذي لا يزال يعد من كلاسيكيات الفكر الاقتصادي بعنوانه المعروف «ثروة الأمم» تأليف آدم سميث أو هو انجيل النظام الرأسمالي، كما يعرف في ميدان علوم الاقتصاد.
قبل 10 آلاف سنة.
لكن قبل هذه الحقبة الحديثة بقرون طويلة، تحركت شعوب شتى من جنوب العالم إلى شماله، من أفريقيا وآسيا إلى أوروبا، وكان ذلك مثلاً على نحو ما يذهب إليه المؤلف على مدار العشرة آلاف سنة الأخيرة من عمر البشرية، حيث اجتاحت الكرة الأرضية على نحو ما يوضح الكتاب (ص81) موجة من التساخن الكوكبي، مما أدى إلى دفع البشر في ذلك الزمان إلى تشغيل ملكاتهم وتغيير أساليب حياتهم وابتداع السبل والوسائل التي تكفل التكيف مع ما جاءت به موجة الدفء من مستجدات ومعطيات. المهم أن هذه المرحلة شهدت ما أصبح يعرف في العالم باسم الشرق والغرب، وكان الفائز في هذه الظاهرة هو الأقطار التي أدت ظاهرة الدفء المستجدة إلى انصهار غطاء الجليد فوق أراضيها التي أصبحت صالحة للزراعة والبناء وسائر أغراض الحياة. نلاحظ من جانبنا أن هذه النظرية من الحتمية الجغرافية هي التي دفعت في تصور مؤلف الكتاب شعوبا من الشرق وبالذات من غربي آسيا إلى الغرب في أوروبا وبالذات عند حوض البحر الأبيض المتوسط ومن ثم شمالا إلى مناطق أوروبا النوردية وهي إسكندنافيا. يلاحظ النقاد أيضا أن الكتاب يفسّر تفوق الغرب أساسا، من خلال إنجازات مادية بدأت، كما يقول المؤلف، بنجاح سكان الغرب في مراحل ما قبل التاريخ في استئناس الحيوان وتطويع زراعة النباتات لخدمة تطوير حياة البشر وحسن تغذيتهم وفسح المجال أمام حصولهم على ما يكفي لتطور معايشهم من إمكانات الطاقة وأصناف الوقود. النقاد أنفسهم كانوا ينتظرون من المؤلف مثلاً أن يعزو تفوق الغرب إلى التبشير بقيم الحرية أو العقلانية أو التسامح وما إلى ذلك، بيد أن المؤلف كان في الأساس يصدر عن تخصصه في هذا البعد الزمكاني، على نحو ما أسلفنا، بعيدا عن السياسة وقضاياها وتفسيراتها.
المادة قبل الفكر
هذا البُعد هو الذي جعله يتمسك، عبر فصول كتابه، بما يمكن أن نصفه بأنه التحولات الملموسة أو الإنجازات المادية بوصفها قاطرة التغير وسبيل الحضارة، من هنا فهو يرى أن أول عوامل تفوق الغرب لم يكن أشعار شكسبير، مثلًا، ولا حتى فلسفات سقراط أو أفلاطون، ولكن كان توصّل الغرب إلى أول «سفينة» قادرة على أن تمخر عباب البحار منذ 500 سنة أو نحوها، وكان ذلك فتحاً لا ينكر، بعد أن كان الناس قد سلّموا في ذلك الزمان الغابر بأن لا سبيل إلى اجتياز غمرات البحر المحيط أو أن ذلك دونه مخاطر وأهوال. في هذا السياق بالذات، يستطرد المؤلف قائلًا: صحيح أن قدماء المصريين سبقوا إلى مضمار الحضارة في عالم الزمان القديم، وصحيح أن سكان بلاد الرافدين شيدوا صروح بابل الحضارية الباذخة، ولكن الأصح أن الذي فاز في نهاية المطاف لم يكن من أهل الشرق القديم لا في مصر ولا في العراق ولا في فينيقيا شرقي البحر المتوسط. إن الذي فاز وسجل تفوقا للغرب على الشرق هو الشعوب التي سبقت إلى الوصول إلى بلاد الصين وربوع اليابان ومن قبلهما إلى شبه القارة الهندية، عبر سفن كانت وقتها تأخذ بكل أسباب الحداثة، وهم الأسبان والبرتغاليون ومن بعدهم الإنجليز والفرنسيون، أما الذي حمل هذه الشعوب على متن الماء فكانت السفن إياها بكل بنائها المادي وآلاتها المستحدثة، بمقاييس تلك المراحل السابقة في تاريخ العالم الحديث. لم تكن لا الفلسفة اليونانية ولا القانون الروماني ولا تعاليم الديانات التي سبقت في أوروبا باتباع تعاليم موسى أو عيسى عليهما السلام، ولا حتى عصر النهضة الذي خلف زمن القرون الوسطى، ببساطة، يقول الكاتب الإنجليزي جون غراي في نقد هذا الكتاب: فالمؤلف ينسى هذا كله، ولا يركز سوى على تصوره أن الذي أعطى للغرب مقاليد التفوق منذ نحو 500 عام هو الحقيقة المجردة التي تجمع بين موقع الغرب في شمال كوكبنا ومن حيث تفاعل هذا الموقع مع القوانين الطبيعية التي تجمع بين عوامل البيولوجيا والتطور الاجتماعي. في السياق نفسه، يشير الناقد الإنجليزي المذكور إلى أن مصطلحيْ الشرق والغرب خاضعان للتغير حسب المفاهيم المستجدة في الفكر والأوضاع العالمية، وهل نتذكر مثلاً أن تعبير «الشرق» كان يصدق في أدبيات السياسة الدولية، ومنذ أقل من 30 عاما فقط، على منظومة الأقطار الاشتراكية ذات الأيديولوجية الماركسية بقيادة الاتحاد السوفييتي؟
مؤثرات مستقبلية
مع ذلك نلاحظ من فصول هذا الكتاب أن مؤلفه البروفيسور موريس يذهب إلى أن التطور الطبيعي للبشر في زماننا الراهن، ومن ثم فيما يتلوه من سنوات وعقود في هذا القرن الواحد والعشرين، سوف يأتي محصلة لتفاعلات من نوع مستحدث آخر، وفي هذا الصدد بالذات يرى محللو كتابنا أن مؤلفه واقع إلى حد ليس بالهين تحت تأثير واحد من أهم علماء المستقبليات في الولايات المتحدة، حيث اختار مؤلفنا الإنجليزي الأصل أن يعيش ويعمل. ونقصد المفكر الأميركي رايكوزفيل وفي إطار هذه المؤثرات يذهب المؤلف مع سطور الفصول الأخيرة من هذا الكتاب إلى أن التطور الطبيعي للبشرية من شأنه أولاً أن ينزع من الغرب (الأوروبي الأميركي) ميزة احتكار التفوق التي جسدت سيطرته على مقاليد عالمنا ردحا ليس بالقصير من عمر الزمان الحديث. ومن ثم فهذا التطور من شأنه أن يجعل سيطرة الغرب أمرا مرحليا وله نهاية متوقعة إن لم يكن اليوم فهو الغد أو حتى بعد الغد. والسبب كما توضحه سطور الكتاب هو ما يرتقبه المؤلف من تفاعلات حميمة كما يراها تصل في رأيه إلى درجة التلاحم أو الاندماج بين الإنسان الكائن البشري، والحاسوب الكائن الإلكتروني، حيث يفضي التطور إلى انتاج وتشغيل الروبوت المفرط الذكاء، هذا التطور الكفيل بأن يوصلنا إلى أشكال مستجدة وغير مسبوقة من الحياة المستندة إلى عالم السيلكون (إشارة إلى وادي السيلكون في كاليفورنيا غرب الولايات المتحدة حيث إبداعات ومبتكرات تكنولوجيا الحواسيب والروبوت، وهو كفيل في رأي المؤلف، حتى لا ننسى، بأن يمحو فروقات الموقع الجغرافي (المكاني) بقدر ما يؤدي إلى تقارب وتفاعل وربما تدامج أوضاع التطور التاريخي (الزماني) للأمم والشعوب.
العوامل الخمسة
مع هذا كله فلا يملك المؤلف، خلال مسيرته اللاهثة الطويلة والموغلة في أحقاب التاريخ سوى أن يعترف بتفاعل العوامل المادية مع العوامل غير المادية. وهو يعزو تطور، أو عدم تطور الدول والشعوب إلى خمسة عوامل رئيسية يلخصها على النحو التالي: تغير المناخ + تدفقات الهجرة + مأساة الجوع (بين الشعوب) + انتشار الوباء + فشل الدول في النهوض بواجباتها. ورغم اتساع تعريف الشرق عند جمهرة مفكري العالم، إلا أن المؤلف يختار في معظم مقولات الكتاب أن يركز على بلد بعينه في ربوع هذا «الشرق» الذي يعرض له دوما بين طروحات الكتاب، وهذا البلد هو: الصين. وعلى الرغم من أن المؤلف اختصاصي أساسا في دراسات الآثار والتاريخ القديم، إلا أنه كباحث معاصر لا يملك في تصورنا أن يتجاهل أثر التيارات والطروحات السياسية التي تحتشد بها بورصة التوقعات الراهنة في مضمار السياسة الدولية، ومن هنا كان إلحاح السؤال الجوهري الذي يكاد القارئ يلمسه متردداً في سطور الفصل الثاني عشر من هذا الكتاب، والسؤال هو: ترى، لمن الغلبة في العقود المقبلة من هذا القرن الجديد، أميركا، أم الصين؟ أو بصورة أوضح على نحو ما يقول الناقد الأميركي أورفيل شل: هل تتحرك السطوة أو السيطرة من الغرب إلى الشرق، وبالتحديد من أميركا المفلسة (بمعنى المديونة) إلى الصين المزدهرة (بمعنى الدائنة لخزانة أميركا بمبالغ أكثر من طائلة بل فادحة كما قد نقول. في هذا الصدد يرى المؤلف أن خلاص العالم في المرحلة القريبة المقبلة إنما يتلخص في حالة من التفاعل الدينامي والحميم بين الطرفين، الصيني والأميركي. وهو يحيل في هذا الخصوص إلى المصطلح الطريف الذي عمد إلى صياغته وسبكه اثنان من كبار علماء الشؤون الدولية المعاصرين وهما المؤرخ نيال فيرغسون والاقتصادي مورتيز شولاريك والمصطلح هو: «شيرمريكا.» وقد نترجمه بعد إذنك إلى ما يلي: «صيمريكا». ويعني بداهة مزيجاً متداخلاً من كلمتيْ الصين وأميركا، وهنا يحرص كتابنا على التنبيه إلى أن ذلك المصطلح لا يعني توافقاً بين الطرفين بقدر ما أنه لقاء قد تحتمه الأقدار وتفرضه المصائر والمصالح، حيث يعاني هذان الطرفان من مشكلات في الحاضر (أميركا) وفي المستقبل (الصين)، وهو يضيف منبّهاً أو محذّراً بأن العالم لم يعد يتحمل استمرار الصراعات التي طالما نشبت خلال القرن العشرين بين أطراف شتى سواء كانت أسبابها توسعا إقليميا أو صراعا على الموارد والنفوذ (كما شهدت ذلك الحربان العالميتان) أو كانت صراعا عقائديا أو مذهبيا (كما شهدت الحرب الباردة بين معسكري الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي). الكتاب يختم طروحاته بالتنبيه إلى أن المشكلات قد تتسم بطابع أوسع وأعمق وأخطر وأشمل، طابع عابر للحدود أحيانا أو طابع كوكبي (غلوبالي) أحيانا أخرى، وهي مشكلات من قبيل ما يلي: انتشار السلاح النووي، عواقب الزيادات في حجم السكان مع تقلص الموارد، تفشي أنماط مستجدة وأحيانا غير مسبوقة أو غير معروفة من الأمراض، هذا فضلا عن عواقب ظاهرة تغير المناخ وتدهور البيئة. من هنا نقف بعين التدبر والتأمل عند المقولة التي يختم بها المؤلف هذا الكتاب وهي: إن الأربعين سنة المقبلة ستكون الأهم في التاريخ.
|
|
2994 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|