|
|
|
|
|
أضيف في 20 ماي 2012 الساعة 00 : 15
حملت اللغة العربية إبداع العرب الوحيد ألا وهو الشعر قبل الدعوة الإسلامية و منحها القرآن التقديس فيما بعد لتكون لغة إعجازية مقدسة، وعند القرون الثلاثة الأولى بعد الدعوة مُنحت العربية مهمة أخرى لتكون وعائاً للفكر الإسلامي الفلسفي الوليد وكذلك لغة النهضة العلمية الوليدة. و مع التراجع الفكري و الركود العلمي ارتدت العربية لتبقى وعاءً مقدسا فقط. دخل العرب القرن العشرين عراة لا يملكون من مقومات الحضارة شيئأً حتى لغة الشعر إبداعهم الوحيد كانت قد ماتت قبل الدخول، و بعد محاولات التململ العربي للنهوض من الغفوة اكتشف العرب وجود ما يسمى بالعلم و التكنولوجيا واكتشفوا كذلك عجز لغتهم عن استيعاب ما وجدوه بعد هذا السبات العميق. هكذا وجدت اللغة المقدسة عجزها عن استيعاب ما وجده قومها لذا لامتهم وعكست ألمَها مما هي عليه على لسان شاعرهم حافظ إبراهيم و مما قالته اللغة المحنطة: وسعت كتاب الله لفظا و غاية وما ضقت عن أي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة و تنسيق أسماء لمخترعات لا شك في أن حافظ إبراهيم الذي اعتمدته اللغة للكلام عنها لم يكن على دراية بماهية لغة العلم المعقدة و متطلباتها و ربما اللغة المسكينة التي تخلى عنها أهلها وحنطوها لم تكن لتعرف حقا ماذا حل بها و كيف تم تحنيطها من قِبل أبنائها. لقد كتب العرب والمسلمون علومهم الطبيعية في فترة النهضة اليتيمة (700م-1000م) باللغة العربية رغم أن الكثير من العلماء لم يكونوا عربا. لقد دخلت اللغة العربية وقت ذاك طورا جديدا من تاريخها و هو الطور الثالث. قبل الدعوة الإسلامية كانت اللغة لغة الإبداع الشعري وهو الإبداع الوحيد (ربما عرفوا النحت و لكن لم يصلنا منه شيئاً) الذي عرفه العرب قبل الإسلام و هذا هو طورها الأول و بعد الدعوة أصبحت اللغة المقدسة التي جاء بها القرآن و هذا هو الطور الثاني لها. حتى العصر العباسي لم يكن للعرب عهد بالفكر الفلسفي والعلوم وما أن انفتحت الحضارة العربية على الأمم الأخرى أخذت باستيعاب تجارب الشعوب وكانت التراجم التي قام بها اليهود و المسيحيون والصابئة وقت ذاك جهدا عظيما يصعب تقديره قاد اللغة العربية لتدخل طورها الثالث. منذ ذلك العهد و اللغة العربية استوعبت الفن و الفكر و العلم. وقت ذاك لم تكن هناك طباعة أو مؤسسات نشر متخصصة. في تلك الفترة اليتيمة من التاريخ كانت بغداد و القاهرة والأندلس مراكز الإشعاع العالمي و كانت اللغة العربية لغة الحضارة السائدة. استوعبت اللغة العربية الشعر والفكر والدين و العلوم. و ما تزال حتى وقتنا الحاضر الكثير من مصطلحات العرب القديمة مستخدمة في بعض العلوم. ومع بداية تلاشي النهضة العلمية (حوالي 1000م) أخذت اللغة تتقوقع ضمن الإطار الديني و الأدبي و مع الاحتلالات الأجنبية المتكررة و التي كان آخرها الاحتلال العثماني تلاشت حتى القدرة الأدبية للغة لتتحول إلى مجرد لغة مقدسة. بعد سقوط الدولة العثمانية بدأ التململ العربي للاستيقاظ من الكارثة و كان للغة هي الأخرى تلك المحاولة للاستيقاظ. خلال النصف الأول من القرن العشرين عاد للأدب العربي البعض من رونقه وعادت العربية إلى طورها الأول. وما أن أدركت عمق الكارثة الفكرية والعلمية وعدم القدرة على استرداد طورها الثالث عاتبت العرب على لسان شاعرهم . نحن الآن في عام 2012 م و ليس 800م و علوم اليوم ليست مثل علوم الماضي، الاختلاف ليس كميا فقط وإنما نوعيا و منطقيا. اليوم يجب أن نتسائل هل العربية يمكن أن تكون لغة علم كما كانت؟ قد يبدو تبرير قابلية اللغة على استيعاب وصف آلة أو البحث عن أسماء لمخترعات يعطيها القابلية لتكون لغة للعلم تبريرا ساذجا و سطحيا. وهذا ما هرول وراءه الكثير من اللغويين والمجمعيين العرب لاشتقاق مصطلحات عربية مقابلة لمصطلحات العلوم المعاصرة ووضعوا القواميس لها، لقد كان ركضهم وما يزال وراء سراب، لأن العرب الآن ليسوا منتجي علم بل متقبلين لبعض مما يُنتج وما على اللغويين إلا متابعة ما يستجد للبحث عما يرادفه و بصورة مستمرة و دائمة. إن لغة العلم ليست مجرد وعاء استيعاب لنقل ما هو موجود. للغة العلم الحديثة مميزات كثيرة منها: أنها لغة حية علميا و هذا يعني أنها الوعاء الأول للناتج العلمي. البحوث الجديدة أول ما تكتب تكتب بلغة العلم المقبولة عالميا. إنها اللغة التي تنتج مصطلحات جديدة يتم الترجمة عنها باستمرار، فلغة العلم يجب أن تكون لغة منتجة للمصطلح إضافة لكونها قابلة للترجمة، والمصطلح العلمي يكون واحدا رغم اختلاف المترادفات التي قد تبدو متشابهة. أنها لغة واسعة الانتشار علميا وليس المقصود هو عدد المتكلمين بها بل عدد مراكز البحوث التي تعتمدها، وعدد الدوريات التي تصدر بها وعدد الكتب التي تكتب بها والمؤتمرات التي تعتمدها كلغة مقبولة . أنها اللغة التي تجمع ما بين القدرة على التوضيح مع استخدام الرمز (الحروف والعلامات) لكتابة العلاقات العلمية والرياضية. أنها اللغة التي تتعامل بها مؤسسات نشر عالمية وبذلك يكون مطبوعها متوفرا و متراكما ويمكن الرجوع له كمصدر دائم. وهذا يعني أن هذه اللغة تغوص في تاريخ التخصص العلمي لتوفير المعلومة المطلوبة. لقد بدأ النشر العلمي الأكاديمي في حدود القرن السابع عشر وما زال متواصلا من دون انقطاع وبتراكم هائل من الخبرات خلال هذه الفترة الزمنية. خلال هذه الفترة استطاعت اللغة الانكليزية من التواؤم مع الكتابة و الطباعة العلمية، كما أن تقاليد النشر العلمي تأسست خلال هذه المدة التي كان العرب فيها منقطعين عن الحضارة العالمية. كما أخذت بالتشكل طريقة الصياغة اللغوية للحقائق العلمية و طريقة كتابتها. و توجد الكثير من الدراسات حول قدرة اللغة في استيعاب العلوم. حاليا اللغة الانكليزية تتصدر اللغات العلمية العالمية بسبب سعة انتشارها كما توجد العديد من اللغات العلمية شبه العالمية مثل الفرنسية و الألمانية وهناك لغات علمية اقل انتشارا مثل اليابانية و الصينية…. وعالمية اللغة تنشأ من عمق اهتمام مجتمعها بها. ونتيجة سعة وانتشار الناتج العلمي فإن اللغة الانكليزية العلمية أخذت بالتوسع وقبول مصطلحات ورموز من لغات أخرى. لقد كان الروس ضمن الفترة السوفيتية ينشرون بحوثهم بلغتهم، وهذا يعني أن المنظومة العلمية الروسية كانت كاملة وتحوي مؤسسات نشر علمي من كتب ومجلات بحثية. وبغية الاستفادة من البحوث السوفياتية اهتم الغرب في تأسيس مؤسسات متخصصة في ترجمة المنشورات العلمية الروسية كي يكون الغرب على قدم المساواة مع ما يكتشفه السوفيات. مما تقدم نجد أن لغة العلم ليست مجرد وعائاً يمكن تبديله بالترجمة بل مؤسسات ضخمة توفر لقرائها البحوث السابقة والحالية إضافة إلى توفيرها الكتاب العلمي (الأكاديمي) بمستوياته المختلفة. كانت أول تجربة عربيه حاولت أن تمنح اللغة العربية صفة لغة العلم في العصر الحديث هي التجربة المصرية في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. لقد كانت على ما يبدو من ضمن الحماسة القومية أكثر من كونها خطة مدروسة. لقد أصدرت القاهرة مشروع “الألف كتاب” وهو مشروع ترجمة كتب عالمية مختارة للغة العربية. لقد كانت تجربة مفيدة للمثقف العربي إلا أنها لم تتطور لأنها كانت أعجز من أن تتمكن من توفير المراجع العلمية المختلفة الاختصاصات. إضافة إلى مشكلة المصطلح العلمي الذي اختلف العرب على ترجمته كل دولة على هواها. ومشكلة استخدام الرمز العلمي والرياضي. مثل هذه المشاريع قد تفيد في نقل المعرفة لرجل الشارع و للمثقفين عموما ولكن ليس الباحث الذي هو بحاجة دائمة لمتابعة تخصصه و التطورات التي تحصل. الباحث العلمي عليه أن يكتب إنتاجه بلغة يفهمها العالم كما هو بحاجة إلى قراءة ما ينتجه الآخرون. ظهرت محاولات أخرى مختلفة في الكثير من الدول العربية، ولكنها جميعا محاولات متلكئة محلية الطابع رعتها السياسة و الأيديولوجية الحاكمة أكثر من كونها ضرورة اجتماعية. كما قام الكثير من الأساتذة العرب بتأليف أو ترجمة الكثير من الكتب العلمية، كما سبق لي شخصيا وأن أصدرت كتابا علميا باللغة العربية ولكن كل هذه الجهود لا يمكن أن تواجه الكم الهائل من الانجاز العلمي العالمي المتسارع يوميا. وكما يختلف الساسة العرب في مواقفهم فإن المجامع العلمية العربية التي ركضت وراء ترجمة المصطلح العلمي اختلفت فيما بينها، فهناك ترجمة مصرية وأخرى عراقية وأخرى سورية … للمصطلح الواحد. مثلا مصطلح (Momentum) تمت ترجمته بالزخم وكمية الحركة و العزم و هكذا الحال مع باقي المصطلحات. في حين نجد الشعوب الناطقة باللغة الانكليزية تستخدم جميعها نفس المصطلح. عهدنا الحالي ليس هو عهد المأمون العباسي الذي أسس بيت الحكمة وقام بترجمة الكتب المختلفة إلى العربية. العالم الآن أكثر وأكثر تعقيدا مما كان عليه وقت ذاك ولكن للأسف ما زال هناك الكثير ممن يعتقدون أن الزمن قد توقف منذ قرون. إن تجربة المأمون كانت رائدة في زمانها أما الآن فنحن بحاجة إلى تجارب أخرى وليس استنساخ تجربة ماتت وبلت وأصبحت ذات قيمة تاريخية فقط. ترجمة الكتب العلمية على المستوى الجامعي مسألة غاية في التعقيد فهناك عدد هائل من التخصصات وفي كل تخصص هناك على الأقل مستويين من الكتب، كتب الدراسات الأولية وكتب الدراسات المتقدمة. بالإضافة للكتب فإن الباحثين قلما يحتاجون الكتب قدر احتياجهم للمجلات (الدوريات) العلمية التي تنشر البحوث أولا بأول. إنه من الظلم والاستخفاف التشبه بتجربة المأمون الآن. في زيارة لإحدى الدول العربية دهشت عندما وجدت الكثير من الأطباء الشباب هناك لا يملكون القابلية على تبادل المعلومة العلمية الطبية الانكليزية بيسر إلا بعد ترجمتها للغة العربية. كم ستكون الأمور صعبة في حالة المتابعة العلمية للتخصص الأعلى، لأن جميع المنشورات البحثية المتخصصة لا تصدر باللغة العربية وليس هناك إمكانية لترجمة جميع المنشورات العلمية العالمية إلى اللغة العربية. إن تعريب العلوم قد يكون عبئا إن لم يكن كارثة لأنه سيقف حجر عثرة في سبيل التطور العلمي. الصين و دول أخرى تُدرس بلغتها الأم وذلك لإمكانياتها الكبيرة وعدم انقطاعها الحضاري الكبير الذي أدى إلى التراكم العلمي الهائل الذي يعانيه العرب. على ذلك نجد أن اللغة العربية الآن ليست بلغة علم وهذا ليس لقصور ذاتي تعاني منه بل لقصور الإمكانيات العربية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية. الترجمة العلمية يجب أن تشمل الدوريات القديمة والحديثة والكتب الأكاديمية وبمختلف الاختصاصات. إن محاولة كهذه تتطلب تظافر جهد عربي كبير جدا ومؤسسات نشر متخصصة استثمارية وجيش هائل من المترجمين المتخصصين لكل مجال. إنه ولا شك مشروع خيالي. المشكلة الأساسية وراء ذلك كانت يوم تخلى العرب عن العلم منذ قرون وبذلك خنقوا لغتهم وحنطوها. فهل سيتمكن العرب المعاصرون من إعادة اللغة العربية إلى العلم؟
♦ محمد عزالدين الصندوق
|
|
2979 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|