هاهو رمضان يلوح في الأفق، ويشرع مهرجو الشاشة الصغيرة في التحرك في كل الاتجاهات من جديد. وسيثير ذلك فينا الكثير من الضحك بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنه ضحك أسود من فراغ أعمالهم من أي مضمون وتفاهة إخراجها. وقد كنت واهما لفترة طويلة لما كنت أرجع هذه الأعمال المثيرة للسخرية إلى المهرجين الرسميين.. إلى المخزن وخدامه الثقافيين. ولكنني فطنت أخيرا إلى أن هذا لم يكن سوى محاولة مني للتخفيف من ألم نقص جاءني من بعيد ولم أتجشم قط عناء فحصه عن قرب. إذ أينما وليت وجهي، وحتى حين أنظر إلى صفوف "المعارضة الثقافية"، لا أجد سوى الفراغ.
لقد وعيت اليوم بأن هذه الرداءة منا وإلينا. فالأمر في آخر المطاف يتعلق بثقافتنا جميعا ولكنها بطبيعة الحال ملفوفة في أكثر الأزياء إثارة للسخرية.. أزياء أعدتها عقول تعوزها التجربة والمهارة(...).فما هو المنطق الذي يحكم هذا الوضع المؤلم؟ هناك "خبراء" اليوم، بأقلام متسرعة، يرون في الإسلاميين كبش فداء جديد في الظروف الحالية ويتهمونهم بالسعي الحثيث إلى وأد الثقافة. بيد أن هذا فيه كثير من التبسيط، فلا يمكن للمرء أن يقتل ميتا، بل يمكنه، على أكثر تقدير، دفنه !
لست أرغب في أن أكون نذير شؤم، ولكن لا بد أن أكون صادقا مع نفسي. فالمشكل الذي تعاني منه ثقافتنا يكمن في كونها تظل هشة ولا تبلغ القمم حتى في أعمالها المحترمة. ولهذا لا يسعني هنا سوى طرح سؤال، كان الخجل ونوع من الفخر الساذج يمنعاني من طرحه: هل يعوز الإبداع ثقافتنا؟ هذا أمر محتمل.
إن الادعاء الذي يعزو ضعف الإبداع إلى غياب الحرية، يدخل في باب الحجج الواهية التي يغذيها الجهل. صحيح أن بعضا من "فنانينا" و"كتابنا" يتذرعون بكون السلطات تفرض عليهم الصمت ليبرروا إنتاجاتهم المتواضعة بل والضعيفة.
إن الوقائع تثبت أن الحرية والديمقراطية لا يضمنان ظهور إبداع يبهر الجمهور. فالرواية التي ظهرت بأمريكا اللاتينية تحت سلطة الديكتاتوريات بلغت قمما عالية وكانت أفضل بكثير من الإنتاجات الروائية التي رأت النور في أوروبا الغربية الديمقراطية. ولعل نظرة سريعة إلى التاريخ كافية لدحض أي فكرة تربط بشكل تبسيطي وآلي بين الحرية والإبداع. فالموسيقى والأعمال الأدبية الروسية التي ظهرت تحت سلطة القياصرة في القرن الـ 19 رائعة جدا، والأعمال الكبيرة لدوستيوفسكي التي تسبر الأغوار العميقة للنفس البشرية ليست وليدة نظام ديمقراطي، وهذا الأمر ينطبق على العديد من الإبداعات في العديد من البلدان الأخرى. فهذه إيطاليا عصر النهضة، التي تعج بالكنوز الفنية الخالدة، كانت تعيش في ظل سياق سياسي يهيمن عليه الطغاة المحليون، والأمراء، والأسر التجارية الكبيرة. فلا فولتير ولا روسو ولا ديدرو عاشوا في ظل الديمقراطية، بل على العكس من ذلك، عانوا من السجن واضطروا إلى ترك بلدانهم تحت التهديد.
نعم، لقد تمكن الإبداع من الإزهار في محيط الملوك ذوي السلطة المطلقة. فكاثرين العظيمة لم تدخر أي جهد لتشجيع المبدعين، وحسبنا اليوم جولة في مدينة سان بيترسبورغ ووقفة على حجم تراثها الثقافي لنعي أن الاستبداد ليس دائما مرادفا لقمع الإنتاجات الفنية ذات القيمة العالية.
صحيح أنه يمكننا أن نثبت العكس بإيراد نماذج أخرى، ولكن السؤال هنا يتعلق بمدى ارتباط الإبداع بالديمقراطية. فأكبر المؤلفين الموسيقيين من قبيل باخ وهايدن وموزارت وبيتهوفن وآخرين لم يعيشوا في ظل أوضاع سياسية ديمقراطية تخول لهم حرية الحركة، بل كانوا في أحيان كثيرة في خدمة الجماعات المهيمنة التي كان يتعين عليهم أخذ نزواتها وتعاليها بعين الاعتبار. لكن هذا لم يحل دون إبداع أعمال فنية لا مثيل لها.
أين نحن من الكتابات المسرحية لأعلام من قبيل شكسبير وموليير وكورني وراسين؟ فالعالم الحديث لم يبلغ قط درجة الإتقان الذي وصل إليها هؤلاء العباقرة المنتمون إلى عصر آخر، ويبدو كأن الديمقراطية عاجزة عن بلوغ مثل تلك القمم.
إذن، فلنتوقف عن قول الترهات ولنقبل النظر إلى الدواعي الحقيقية التي تجعلنا في أسفل سلم الإبداع بالعالم.. في الدرجة الصفر للإبداع إن صح التعبير.
إن الإبداع ينشأ من ذلك التوتر الذي يعتمل داخل المجتمع وداخل المبدع نفسه. كما أن المناخ الملائم للإبداع يولد من الصدام العنيف، أحيانا، ولكن الخصب بين الثقافات، وهو صدام يميز المراحل الانتقالية التي تتأجج فيها التناقضات وتُشحذ فيها الملكات الإبداعية. فالألم شبيه نوعا بالصفائح التكتونية التي يصطدم بعضها ببعض فتنتج عن قوة الاصطدام الزلازل. وفي المجتمعات يعد ثراء الإرث الثقافي وتنوعه والدينامية التي تسري في مختلف مستوياته، هي التي يمكن أن تولد التوترات الإبداعية أولا تولدها. ولعل لنا في حالة مصر داخل العالم العربي نموذجا صارخا للغنى الثقافي.
أما في المغرب، فالبنية المركبة (composite) للمجتمع والثقافة- حتى نستعيد هنا تعبير عالم الاجتماعي الشهير بول باسكون- هي التي يمكن أن تفسر قلة ميل هذه الأخيرة نحو خلق مناخ ملائم للإبداع. فالموروثات الثقافية تتراكم في هذا المجتمع وتشكل طبقات متتالية دون أن تخلق فيما بينها تناقضات عميقة كفيلة بإطلاق دينامية ثقافية غنية ومجددة ! وعلى كل حال، ليس في هذا الأمر ما يثير الكثير من الغرابة. فالثقافة تخضع بدورها لمنطق شبيه بذلك الذي يخضع له الاقتصاد. إذ هناك مجتمعات تتقدم عبر قفزات متوالية، وتبتكر لتجاوز الأزمات التي تعتمل داخلها وترجها بين الفترة والأخرى، وهناك بالمقابل مجتمعات تتفوق فيها تركيبة الهيآت والموروثات الثقافية على التناقضات، ويكون فيها تواطؤ الثقافات هو القاعدة. وفي هذه الحالة تتحرك هذه الثقافات بانسجام لا يترك أي مكان للتوترات. وبالتالي فالإبداع لا يكون فيها سوى عرضيا أو ظرفيا.. وهذا يترك الطريق مشرعة أمام لصوص الأعمال الأدبية والمهرجين.