كان ذلك قبل 16 ماي حين استضاف مركز طارق بن زياد، الذي كنت أشرف عليه، المؤرخ الجزائري الكبير، محمد حربي والذي للإشارة كان قد شغل منصب مدير ديوان الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة. اجتمعنا حول عشاء ضم أطيافا من الحقل السياسي والثقافي بالمغرب، من الاتحادي إلى الناشط الأمازيغي، ومن اليسار الراديكالي إلى المتصوف، ومن حزب الإستقلال إلى عناصر من المخزن. لم يفت محمد حربي أن عقب بقوله «ليس من اليسير تصور جمع مثل هذا يضم أطيافا متضاربة في الجزائر». كان هذا الحكم رجع صدى لما كان يقوله جزائري آخر، عاش في المغرب في شرخ شبابه، وتولى بعدها مسؤوليات جسيمة في بلده، وكان يردد على مخاطبيه من المغاربة: من العسير أن يلتقي سعيد سعدي «ذو الاتجاه الأمازيغي مع علي بلحاج الإسلامي»، ثم يستشهد بما عاينه في شبابه من السجالات التي كانت تجمع كلا من الهادي مسواك ذي الاتجاه الشيوعي، وعلال الفاسي ذي الاتجاه السلفي،»ليس بالمعنى المتداول حاليا لهذه الكلمة».
لقد دفعني الأمر إلى أن أفكر مليا في الأمر، هل المغرب فضاء جغرافي أم فكرة ؟ ليس لي أن أجيب على هذا السؤال، وقصارى أمري هو أن أرصد تعابير لاشعورنا الجماعي وتعقب أشكاله المختلفة. إنه ليس بمنأى عما قد يعرضه للاهتزاز. ألم نشهد تلك المحاولات الساعية إلى توحيد المغرب حول فكرة واحدة «للتفكير» والعمل والكلام؟ بل في اللباس والعبادة. وإذا كان ما سبق لي أن سميته بـ «تماغربيت» في محاضرة كنت ألقيتها في ماي من سنة 2005 أمرا حقيقيا وطبيعيا،
فإن الانحراف عن هذا المسار قائم كذلك. لقد أشرت إلى 16 ماي. إن تصوري للمغرب يقتضي الاعتراف بكل مكونات الملحمة المغربية، والتمسك بالمكتسبات التي راكمناها عبر التاريخ. إن هذا التصور يقتضي كذلك ممن يمسك بزمام الأمور ألا يعتبر السلطة مِلكا أو غنيمة أو أن تخول له إزجاء الدروس. إن هذا التصور يقتضي الاعتراف للإسلامي بأن تكون له أفكاره الخاصة، والتعبير عليها دون أن يجنح به الأمر إلى الاعتقاد بأنه مالك للحقيقة المطلقة، وأنه مطوق برسالة تدفعه إلى أن يفرض تصوره فرضا، ويطبقه تبعا لذلك. إن هذا التصور يقتضي من الناشط الأمازيغي الدفاع عن لغته وثقافته ونظرته للعالم دون أن يهوى في لجج السباب أو دور الضحية الذي يدفع إلى رفض الآخر وثلبه. إن هذا التصور يقتضي ممن ُيعتبر وريثا للحركة الوطنية ألا يدفع بأي تميز أو دور اعتباري معين. إن هذا التصور يقتضي من العلماني المشبع بعلمانيته أن من حقه أن تكون له الأفكار التي يريد، وأن يقود حياته كما يشاء،
ولكن ذلك لا يمنح له الحق أن يجافي توجه المجتمع. إن هذا التصور يفترض ممن يرتبط بالاتجاهات التقليدية، أيا كانت هذه الاتجاهات، أن للتقاليد مكانتها في المجتمعات ولكن ذلك لا يخول له أن يوقف دينامية المجتمع، وأن القواعد المرعية لا يمكنها أن تلغي الحق في الشك والمساءلة.
إن هذا التصور يفرض على المسلم أن يشعر أنه مؤتمن على التراث اليهودي، وأن اليهودي في نحو من الأنحاء مسلم. إن هذا التصور يفترض ممن يفخر بالتراث الأندلسي أن يعي عمق الثقافة الأمازيغية وأثرها، وأن يتبنى المدافع عن الثقافة الأمازيغية الأوجه المشرقة من تاريخ الأندلس من دون أحكام مسبقة، وأن يتبناها إن اقتضى الأمر. إن هذا التصور يقتضي من كل ممن ينتمي إلى مرجعية إيديولوجية أو ثقافة معينة عدم رفض الآخر، بل وتبني مكونات طيفنا الثقافي.
إن هذا التصور يقتضي أن يكون الحب الذي نستشعره لبلادنا شبيها بذلك الذي نكنه لأمهاتنا، حبا صادقا متجردا ومتفردا، ذلك أنه يمكن أن نحب بلدنا بطريقة أخرى على غرار الخليلة مادامت غنية قادرة على البذل وتنضح بالجمال، وإذا ما نضب معينها أو شاخت تحولنا عنها إلى أخرى، وقد تكون للشخص عدة خليلات أو ولاءات. ليس على هذه الشاكلة ينبغي أن نحب بلادنا. وللأسف، فهؤلاء الذين ينطبق عليهم هذا التوصيف هم من له ملكة الخطابة والحذلقة والإمكانات المادية.
كان واحد من بني جلدتنا الراحل حييم الزعفراني، يستشهد ببيت الشاعر الفرنسي أراغون :
كل ما كان سيكون، إن نحن تذكرناه.
فلنتذكر ما نحن، فذلك الشعور هو الذي سيضمن لنا ما نريد أن نكون. من أجل بلدنا، ومن أجل آخرين يجدون أنفسهم في هذا التصور، من دون أن يكونوا بالضرورة من بني جلدتنا.
نافدة
التقاليد مكانتها في المجتمعات ولكن ذلك لا يخول لها أن توقف دينامية المجتمع