|
|
|
|
|
أضيف في 11 ماي 2012 الساعة 48 : 22
♦ نبيل علي صالح
هل يمكن بناء نوع من “العلمنة المؤمنة” في مجالنا المعرفي الإسلامي؟ لماذا لا تزال فكرة “العلمانية” مرفوضة ومذمومة ومدانة في داخل البنية المعرفية العربية والإسلامية على مستوى البناء الفكري التاريخي والسياسي حتى الآن؟ ولماذا فشل العرب والمسلمون في إيجاد مقبولية شعبية أو موطئ قدم حقيقية –وليست شكلية- لها في داخل تربتنا الثقافية والدينية على مستوى عدم تبيئة هذا المفهوم على مستوى الذات والموضوع في داخل مجالنا واجتماعنا الديني والسياسي، الذي لا تزال خطابات وطروحات وقيم الدين التقليدية تهيمن فيه على العقول والأفئدة؟!!.. ثم لماذا ينبغي أصلاً التركيز على أهمية مفهوم العلمانية في اجتماعنا الديني العربي والإسلامي؟ هل لأنها تشكل حلاً وطريقاً منهجياً وعملياً وحيداً للخلاص من أزماتنا وتعقيداتنا ومشاكلنا المقيمة التي لا نزال نعاني منها منذ عقود وقرون والتي تتمثل وتتركز أساساً في أزمة الحكم والسلطة وديمومة القهر والغلبة والاستبداد على النصوص والنفوس؟.. وفي النهاية: هل يقبل الإسلام العلمنة كآلية إجرائية؟.. وهل تقبل العلمنة الإسلام كدين دنيوي له حضور ودور اجتماعي وسياسي ما؟ أسئلة كبيرة ولا شك.. سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال المقتضب.. إضافة إلى محاولة تقديم تصور أقرب ما يمكن إلى الموضوعية والحيادية تجاه مسألة من أعقد مسائل واشتغالات الفكر العربي والإسلامي.. أعني بها قضية العلمنة والدين، والبحث في إثبات أو نقض فكرة أن شرط تطور واقع العرب والمسلمين هو في مدى قبولهم أو رفضهم لفكرة العلمنة الحقيقية، وإبعاد الدين عن ساحة الفعل السياسي العملي التنظيمي من حيث أنه دين أخروي لا دولة مدنية، ولا يمتلك أسس الحيادية الكاملة تجاه باقي الأديان والمذاهب والنظم والعقائد والأفكار الأخرى. نبدأ من تعريف “العلمانية”، وهو أمر ليس صعباً ولكنه غير نهائي باعتبار أن هناك تعاريف وسياقات متنوعة حول معنى المصطلح الدقيق لهذه الكلمة.. ولكن من حيث الإجمال العام يمكن القول بشأن هذه الفكرة أنها تعني تاريخياً: التصرف وفق المقتضى العقلي الإنساني بعيداًَ عن مقالات ونصوص الدين، و فصل الدين عن الدولة بالمعنى السلطوي القهري، ومن دون التورط طبعاً في مواجهة حادة مع الدين من خلال نفيه.. أي أنها فكرة تعترف وتقر بوجود الدين وتتعايش معه بسلام. لكنها لا تعطيه دوراً أساسياً في العمل السياسي والتشريعي القانوني. ويمكن أن نقول هنا بأن للعلمانية –على وجه العموم– وجوهاً هي: أ- وجه معرفي يتمثل في نفي الأسباب أو العلل الخارجة عن نطاق الظواهر الطبيعية أو التاريخية، فلكل ظاهرة أسبابها ومسبباتها العلمية وحقائقها التجريبية. ب- وجه مؤسسي يتمثل في اعتبار المؤسسة الدينية –كما هو الحال بالنسبة للعلمانية المؤمنة– مؤسسة خاصة ذات توجه لنظم علاقة الإنسان الروحية فقط مع خالقه بصورة عمودية وليس أفقية. ج- وجه سياسي يتجلى في رفض تدخل الدين بالسياسة. د- وجه أخلاقي وقيمي يربط الأخلاق بالتاريخ، والوازع بالضمير. وبذلك فإن نظرية الفصل بين الدين والدولة تتلخص –بحسب العلمنة– في ميدانين رئيسيين: ميدان المجتمع السياسي الذي تصبح فيه هذه النظرية رداً مباشراً على النظام الثيوقراطي الديني الذي كان له حضور كبير في ماضي الزمان أيام حكم الكنيسة القروسطية، وميدان النشاط العقلي حيث تهدف العلمانية إلى تصفية الإرث الماضي كعامل مثبط للتطور والإبداع، واستبدال النظام اللاهوتي بالنظام العلمي التجريبي العقلي كمصدر رئيسي لمعايير المعرفة الإنسانية الصحيحة. من هنا تكون العلمانية في جوهرها محاولة فكرية وتجريبية إنسانية تراكمية خاضتها شعوب وتيارات ونخب وفلاسفة غربيين في حركيتها الدؤوبة منذ ما قبل عصر الحداثة الأوربية الذي انبثقت معالمه في القرن السابع عشر (وكانت إرهاصاتها قد بدأت قبل ذلك) في مجمل مسيرتها التاريخية على مستوى صراعها ضد الأحادية النصية الدينية، ومحاولة اختزال الكون والوجود والحياة بالقول الديني الذي كان سائداً ومهيمناً على الساحة الإنسانية حتى ذلك الوقت.. والعمل على تقديم رؤية فكرية ومفاهيمية جديدة تقوم على ادعاء أن منبع ومصدر الحقيقة هو في هذا العالم الذي نعيش فيه ونمارس حياتنا في مختلف أجوائه ومواقعه، وهي ليست شيئاً بعيداً عن حركية البشر وتطورات المجتمعات الإنسانية. وكمثال على تلك المواجهات التي حدثت، لعلنا نتذكر هنا تلك الأحداث الدامية التي افتعلتها الكنيسة القروسطية يوماً ما ضد العلماء والمبدعين والمخترعين من ذوي العقول النيرة وخاصة القائلين منهم بدوران الأرض حول الشمس على سبيل المثال، حيث بدا أن المؤسسة الدينية التقليدية الرثة والبالية –وبالاستناد إلى رؤيتها الأحادية وسلطتها الدينية الباطشة الغاشمة- توسعت وامتدت في امتلاك سلطات لا علاقة ولا شأن بها، فقامت العلمانية –كرؤية إنسانية نسبية تحررية- في مواجهة هذا العسف المغلف برؤية دينية نصية مقدسة تدعي امتلاك الحقيقة المقدسة، لتحرر الإنسانية من سلطان وأسر هذه السلطة المخيفة والمرعبة، ولتفتح باب العلم والمعرفة والنقد والتفكير الحر والبحث عن الحقائق على مصراعيه اهتداءً بالهبة الأسمى من الله للإنسان أي العقل الذي اعتبره الإسلام –على وجه الخصوص- رسولاً للإنسان من الداخل. ..أما بالنسبة لعدم وجود أية تجليات عملية حقيقية لتطبيق فكرة العلمانية في أوساطنا العربية بالصورة الواسعة التي تم تطبيقها في الغرب، أو على الأقل إيجاد حقول وتجارب معينة يمكن أن تؤسس لاحقاً لتجارب أوسع وأشمل لها في بيئتنا العربية والإسلامية على مستوى الحكم والسياسة والاجتماع والثقافة ككل.. فلا بد وأن هناك أسباباً موضوعية حالت وتحول دون نمو أو تقبل لهذه الفكرة (العلمانية) في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية.. خاصة على مستوى وجود أخطاء أو عدم وضوح في تقديم هذه الفكرة للناس في أوساطنا الاجتماعية، مما يترتب عليه إحجام الناس عنها، ووصمها بأبشع النعوت والصفات كما هو الواقع حالياً. وربما لم تتمكن نخبنا المفكرة من تقديم هذه الفكرة بالصورة الصحيحة التي يمكن معها إيجاد مقبولية لها في أوساطنا الاجتماعية، بل إنها لا تزال تقدم على أساس أنها فكرة إلحادية أو أنها أيديولوجية محملة بحمولات وثقافة غربية متهتكة لا تقيم وزناً للأخلاق والقيم والمبادئ، أو أنها تريد إبعاد الدين عن ساحة الحياة، وإرجاعه وحبسه في الجامع، وعدم السماح له بالتعبير عن رأيه أو قناعته بأية قضية ذات صلة بالسياسة أو بالاجتماع أو بوضع الملتزمين به تجاه أية قضية من القضايا المثارة.. أي أن المفكرين العرب لا زال كثير منهم يصر على نقل فكرة ومفهوم العلمنة كما هي وكما نشأت في الغرب الأوروبي –مع نقل نفس الإشكاليات والتجارب التي حدثت هناك- من دون تقريب هذه الفكرة أو محاولة تكييفها مع واقعنا العربي والإسلامي بما يمكن أن يفضي إلى توسيع قاعدة المتقبلين لها والمؤيدين والملتزمين لها على أوسع نطاق اجتماعي.. لأن الغاية هنا ليست أن تبقى هذه الفكرة نخبوية تعيش في برجها العاجي مع هذا المثقف وذاك الحزب، ولكن أن تتحول إلى فكرة يقبلها الناس من خلال وعيهم بها وإدراكهم لمعانيها الصحيحة بعيداً عن المغالاة في الطرح والعرض، وأنها طريق حقيقي للخلاص من أزماتهم الداهمة والمقيمة.. وأنه لا يمكن بناء واقع عربي وإسلامي صحيح وسليم ومعافى وقادر على الإنتاج والعطاء في مختلف دروب الحياة ما لم تتأسس وتتكون في داخل بنيته الفكرية الفلسفية تصورات جديدة حول مفهوم العلمانية (نوع من العلمنة المؤمنة) تقوم على قاعدة أنها فكرة تؤمن بالأخلاق والأديان وبحقها في التعبير، ولا تعترض على مشاركة الفرد الملتزم والمتدين وحتى رجل الدين في الحياة السياسية والاجتماعية ولكن بشرط أن تكون مشاركته بصفة أنه مواطن وليس رجل دين يمتلك نصاً أو رأياً سياسياً أو اجتماعياً مقدساً هنا وهناك، وبشرط عدم ادعاء القيمومة الفكرية والسياسية على أحد، وعدم ادعاء امتلاك الحقيقة المقدسة، وأن تكون الحرية هي الناظم الجوهري لحركة وسلوك الدين في الحياة، مع إعادة الاعتبار للذات الإنسانية باعتبارها الموضوع الأساس القابل المالك لزمام المبادرة والقيمومة الفكرية والنصية والعملية على الأرض بمرجعية واحدة هي مرجعية العقل الحر والتفكير العلمي العقلاني الصريح من دون مواربة ولا لف ولا دوران في أفلاك نصوص ميتافيزيقية من هنا وهناك.. من هنا يمكن التأكيد على أن محاولة تجديد تصوراتنا ومفاهيمنا عن العلمانية كفكرة أو كمشكلة هي السبيل الجديد لإعادة طرحها ومن ثم محاولة كسب رضا الناس عنها لكي يتمثلوها ويلتزموا بها ويدافعوا عنها.. أما أن تبقى الساحة هكذا متاحة فقط للخطاب الديني لكي يمارس دعاته ورموزه هواياتهم المفضلة في كيل الاتهامات لهذه الفكرة ولأصحابها بالكفر والإلحاد وانعدام الأخلاق، وربما بمساعدة كثير من حملة لواء العلمانية من خلال إصرارهم على عدم تبيئة مفاهيمها، فإن هذا سيديم المشكلة القائمة، وسيكرس سيطرة هؤلاء أصحاب العقول الحارة من كلا الطرفين على ساحة الفكر والثقافة والسياسة العربية والإسلامية.. إننا نراهن على إمكانية وجود حلول لأزمة العلمنة والعلمانيين في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، والمشكلة هنا ليست سياسية على الإطلاق بمقدار ما هي فكرية وفلسفية لها نتائج وتداعيات على الصعيد الاجتماعي والسياسي. ولنحاول البدء من هنا، من محاولة إعادة النظر في آرائنا ومعتقداتنا وقناعاتنا الصلبة حول مفهوم العلمانية، ولننطلق من فكرة أن تكون العلمنة عندنا علمنة مؤمنة ولكن بغطاء عقلي علمي نقدي يتيح مناخ النقد وحرية المعتقد والتفكير والرأي الحر للجميع.. حتى لأولئك الذين يريدون ممارسة النقد على العلمانية ذاتها. ولا شك أن العمل الفكري المرتكز على العقل الحر في أوساطنا الاجتماعية العربية التي يهيمن عليها رجالات الدين وأصحاب الوعظ المسجدي العتيق صعب مستصعب، ولكن الأمل يكمن في محاولة تقريب وجهة نظر الفكرة العلمانية للناس خاصة بعد فشل تجارب تطبيقات العلمنة والحداثة الرثة الكسيحة التي طبقتها نخب ما بعد عهود الاستقلال العربي، في محاولتهم بناء الدولة الوطنية.. ويمكن القول هنا بأن حدوث تلك الانتدابات والاحتلالات العسكرية لبلداننا العربية في المغرب والمشرق ساهم في تشويه صورة وفكرة العلمانية، وبالتالي تأخير تطبيق العلمنة، مضافاً إليه ما قامت به مجمل النخب السياسية التي حكمت لاحقاً تلك البلدان بقوة القهر وعقلية الاستبداد وتغليب منطق الدولة الأمنية على منطق دولة المؤسسات والعدل والقانون.. حيث يمكن اعتبار ذلك من أهم أسباب فشل تطبيقات العلمانية الصحيحة خاصة بعد اكتشافات النفط وحدوث فورة مادية دفعت إلى تأسيس مجتمعات استهلاكية طفيلية غير منتجة أدت إلى نسف الطبقة الوسطى من جذورها.. وهذا النسف لطبقة واسعة وعريضة تمثل حوالي 90 بالمائة من السكان حول مجتمعاتنا العربية إلى ما يشبه الحطام، لأن الطبقة الوسطى هي داعية وحاملة لواء التغيير وبذور الإصلاح في أي مجتمع، وهي التي يعتمد عليها في كل ما يتعلق بتأسيس مشاريع نهضوية.. وبعد ذلك بدأت الانقلابات العسكرية، وكانت النتيجة أن تبلور نظام في بعض الدول أطلق عليه بعض المفكرين اسم “النظام العسكري=العسكرتاريا العربية” التي وضعت مشروعها الأساس وهو ابتلاع المجتمع برمته. وقد أفضت الآن إلى “دولة أمنية” بامتياز، ليس من مصلحتها سوى تكريس وجودها وثرواتها، ومسك العصا من المنتصف، فهي علمانية مع العلمانيين ودينية مع المتدينين. نذكر ونلفت النظر أخيراً إلى أن الإشكالية في فكرة “العلمانية” –كما تؤكدها ممارسات وسلوكيات كثير من تلك الدول المسماة علمانية- ليست مرتكزة حول علاقتها أو صلتها بالدولة سلباً أو إيجاباً، بمقدار ما كانت حول علاقتها بالموضوع الديني والإلهي، أي بالعلاقة ما بين الإنساني النسبي و الإلهي المطلق، أو العلاقة ما بين الإنسان بذاته وبالدولة ومدى تأثير ذلك على الحراك والفاعلية البشرية في الأرض على مستوى البناء والإعمار والإنتاج والإثمار الحضاري. وبيئتنا العربية جاهزة كثيراً لتقبل هذه الفكرة بشرط عدم نقلها من أرضها ولصقها في تربتنا.. خاصة مع وجود مساحات مشتركة واسعة بين مفاهيم العلمنة المؤمنة وبين مفاهيم وتطبيقات الفكر الإسلامي حيث أن التاريخ السياسي والاجتماعي الإسلامي لم يشهدْ أبداً أية حركة قامت على أساس الفصل بين الديني والدنيوي، أو الفصل بين الدين والدولة، أو بين الدين ونظام الاجتماع السياسي أو الحقوقي أو المدني (باعتبار أن الإسلام كان هو الذي أسس للجانب المدني، وأكد عليه، وشرّع له) على الرغم من أن نفس هذا التاريخ قد عرف الكثير من ثورات الإصلاح في داخل الأمة التي قامت غالباً على مبدأ ضرورة العودة إلى روحية المبادئ الإسلامية الأولى الباكرة في وجه السلطات السياسية الحاكمة التي استأثرت بالفيء، وبالسلطة، والامتيازات لوحدها مدعية أنها تحكم بموجب صك إلهي مقدس. والمسلمون عاشوا طوال قرون مع صيغة الدولة الإسلامية -بصرف النظر عن نقاشنا لهذه الصيغة، سلباً أم إيجاباً- دون أن تكون هناك مشكلة نظرية تقود إلى الرفض، وإذا كنا قد شهدنا كثرة الصياغات الاجتهادية، فهي جميعاً تلتقي في فكرة الإيمان الكامل بالدولة الإسلامية كقاسم مشترك فيما بينها.. ونحن قد نفهم العلمانية -في حقيقة مفهومها العلمي الصريح- بأنها ليست ضد الدين، وليست إلحاداً، بالرغم من وجود فئات ملحدة تتخذ العلمانية شعاراً لها. وأنها لا تلتزم -في الواقع القانوني- ديناً معيناً، وليست ملزمة -في الواقع السياسي- بخطوط دين معين. ونحن نهدف من خلال الطرح السابق –تكييف وتبيئة مفهوم وتطبيقات العلمانية– إلى إطلاق سراح الاجتماع المدني والسياسي العربي الإسلامي، وتحرير مكوناته ومنطلقاته الموضوعية المحاصرة بين علمنة تتسع للإسلام ولكنها تصر على استبعاده وعزله ونفيه، وبين إسلام يتسع للصيغة المدنية المؤسساتية (على صعيد السلطة السياسية البشرية في معناها الدنيوي والتنظيمي والمؤسساتي في المجتمعات المتنوعة فحسب) ولكنه يصر على استبعادها من خلال سلوكيات وتنظيرات بعض المسلمين. ولعل في هذه الحقيقة المرة ما يسلط ضوءاً على ذلك الانشطار العدائي الحاد في داخل المجتمعات العربية والإسلامية بين المجتمع المدني والسياسي. ولذلك قد يساهم ذلك العلاج الوسطي التقريبي –إذا صح التعبير- في تطوير الواقع السياسي والاجتماعي للعرب والمسلمين، ويدفع باجتماعهم المدني إلى المواقع الضرورية من التقدم، والدرجات العالية من الرقي، وامتلاك شروط الحياة المعاصرة، ومواجهة تحدياتها من خلال ضرورة التجديد والاجتهاد في فهم الدين، ومواكبة متغيرات العصر والحياة، مع المحافظة –طبعاً– على الفكر الذي ينطلق من صميم الحقيقة بعيداً عن خصوصيات البيئة، وجزيئات الثقافة والجوانب العاطفية، لأنه يمثل فكر الحياة. وهذا الأمر لا يعني بالضرورة بقاء القيم والمعايير -التي يفرزها هذا الفكر- مطلقة ومثالية في آليات تطبيقها في حركة الواقع، ولكن أن تكون نسبية وواقعية في طرحها وممارستها من قبل الإنسان خصوصاً في ظروفنا الحالية المليئة بالتقلبات والتحولات اليومية المتزايدة. إن ذلك يتطلب من القيم الأخلاقية في المجتمع المدني أن تكون واقعية، مرنة، ترتبط ارتباطاً مباشراً بالممارسة العملية للإنسان، تخاطب مشاعره وأحاسيسه في أوضاعه الطبيعية المختلفة في الحياة، ثم نحاول –بعد تنمية وعيه وإرادته– الارتفاع به إلى المثل الذي لا يقترب من خلاله الإنسان إلى ذروة الحتميات التي تعزله عن واقعه، ولكن أن تدفعه إلى تقصير المسافة بين القيمة كنظرية وبين القيمة كتطبيق. لأن القيم لم تصنع أساساً ليبلغها الإنسان ولكن ليقترب منها، ولتكون قاعدة لحمايته من الانحراف، وتحديد خط سيره الواقعي. إن المسألة التي نريد للعرب والمسلمين أن يحركوها -في كل التزاماتهم ومواقفهم العملية في الحياة– هي أن يكونوا واقعيين فيما يطلقونه من أحكام، وفيما يحركونه من قضايا، لا بمعنى أن تسقط الواقعية قيمة أخلاقية هنا وقيمة أخلاقية هناك، ولكن أن تكون هناك حدود وضوابط لحركة القيم العملية، تنطلق من الوعي بحاجات الناس الطبيعية في الأرض في إطار تنظيماتهم المدنية الاجتماعية، والتفكير بحجم طاقاتهم وقدراتهم الذاتية. لأن القيمة المثالية (غير الواقعية) عقيمة وغير منتجة، إنها تشل حركة الإنسان، وتمنحه شيئاً من الاستقرار والسكون في فكره، وسلوكه، ووعيه. * باحث وكاتب سوري
|
|
3038 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|