د.حبيب عنون
باحث في العلوم الاقتصادية والاجتماعية
من الأكيد أن الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية السلبية التي واكبت الأزمة المالية التي شهدتها الدول الأوروبية خلال الأربع أو خمس سنوات الأخيرة ومنها دولة فرنسا كان لها وقع على إعادة النظر في الميولات السياسية للمواطن الفرنسي بخصوص من سيوليه ثقته لتدبير شأنه العام. وقد حسمت الديمقراطية الفرنسية بعودة التيار الاشتراكي بزعامة فرانسواهولاند إلى قصر الاليزي تحت شعار "التغيير". وقد استطاعتا كل من دبلوماسيتي المملكة المغربية والجمهورية الفرنسية عبر التاريخ الحفاظ على علاقات سياسية واقتصادية واجتماعية، بالرغم من بعض التشنجات السياسية خلال حقبة الرئيس الراحل فرانسوا ميتيران بخصوص ملف الصحراء المغربية، جد متميزة عموما كيفما كان اللون السياسي للحزب الحاكم سواء كان يمينيا أم يساريا. ملفا بات متجاوزا بعد اعتماد المنظومة الدولية، من خلال الأمم المتحدة، لمبادرة الحكم الذاتي كأرضية سياسية جادة لطي ملف تم افتعاله إبان حقبة الحرب الباردة.
ومن المرتقب، بحكم أنه بات تقليدا دبلوماسيا يعكس مدى مثانة وعراقة العلاقات بين البلدين، أن تكون المملكة المغربية أول دولة عربية يزورها رسميا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند تأكيدا منه ومن الجمهورية الفرنسية على استمرارية المكانة جد المتميزة التي تحضى بها المملكة المغربية،ملكا وحكومة وشعبا، لذا الجمهورية الفرنسية. وموازاة مع هذه المكانة جد المتميزة، ثمة متطلبات يختزلها المواطن المغربي في مستويات ثلاث:
أولا، المستوى السياسي من خلال تأكيد دعمها لمقترح الحكم الذاتي والدفع نحو الاسراع بتفعيله تفاديا لأن تصبح هذه المنطقة مجالا لتخصيب المد الأصولي المتطرف وبالتالي تهديدا ليس فقط لاستقرار الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط بل حتى لاستقرار الضفة الشمالية له. وبالتالي، قد يتعسر تحقيق المشروع الأورو-متوسطي الضامن لازدهار ورقي بلدان وشعوب المنطقة. فإذا كانت كل الدول المتقدمة الديمقراطية قد ثمنت الاستثناء المغربي فعلى فرنسا سلك نفس السبيل حفاظا على هذا الاستثناء خصوصا وأنه توج بميلاد دستور جديد يضمن للمواطن المقيم في هذا البلد حقوقه وواجباته المتعارف عليها أمميا. دستور جديد تعمل الحكومية المغربية الحالية والتي حضيت، من خلال استحقاقات انتخابية ديمقراطية، بثقة الشعب المغربي، على تنزيل مقتضياته تنزيلا قويما.
علاوة على هذا، فوجب على الحكومة الفرنسية الحالية أن تأخذ بعين الجدية أمرين اثنين نجح المغرب، مقارنة مع عدة دول، في معالجتهما:
- ملف حقوق الانسان والذي اعتبرت التجربة المغربية في معالجته أو في طريق طيه من خلال تنصيب هيأة الانصاف والمصالحة مثالا يقتدى به وخطوة جد إيجابية للرقي والتمركز بفضله ضمن الدول المتقدمة في هذا المجال.
- نزع فزاعة وصول التيار الاسلامي إلى مجال تدبير الشأن العام وبالتالي فالمواطن المغربي يبرهن للعالم وللحكومة الفرنسية الحالية على كون فعاليات مشهده السياسي تتميز بالتعددية وبالقدرة على التوافق بينها على تفعيل برنامج اقتصادي واجتماعي فوق كل اعتبارات أو خصوصيات إيديولوجية. بل أكثر من ذلك، فقد أبانت دبلوماسية الحكومة المغربية على انفتاح اوسع نحو كل الدول أكانت ذات توجه غربي أم توجه شرقي.
ثانيا، المستوى الاقتصادي من خلال تصدر فرنسا لقائمة المتعاملين تجاريا مع المغرب علاوة على تصدرها لقائمة المساهمين في المشاريع المنجزة في المغرب وبالتالي فعلى الحكومة الفرنسية الحالية الحفاظ على مكانتها وامتيازاتها الاقتصادية داخل المغرب عوض فسح المجال أمام فاعلين اقتصاديين جدد لمنافستها واحتلال مكانتها. ذلك أن المغرب علاوة على موقعه الجغرافي الاستراتيجي بات يتوفر على بنيات تحتية أصبحت تعزز مكانته كبلد بإمكانه استقطاب استثمارات دول عدة. كما أنه ثمة عدة دول باتت تصنف المغرب بالسوق الاستراتيجية البين قاراتي. ولعل المبادرات اليابانية الأخيرة لخير دليل على هذا التوجه. فمن مصلحة الحكومة الفرنسية الحالية العمل على الحفاظ على مرتبتها كمتصدر لقائمة المتعاملين مع المغرب علاوة على دعم مكانة المغرب ضمن المنظومة الأوروبية وجعله طرفا وفاعلا اقتصاديا ضمن هذه المنظومة والتي تعتبر اللبنة الشمالية للمشروع الأورو- متوسطي المستقبلي. وهذا لن يتأت بإبقاء المغرب بلدا مستوردا للمنتجات الفرنسية والأوروبية بصفة عامة بل بفتح الأسواق الفرنسية والأوروبية أمام الصادرات المغربية.
فالمؤهلات المغربية لا تهم فقط ما تمت الاشارة إليه، بل هناك عنصر آخر وجب على حكومة فرانسوا هولاند، حكومة المساواة، أخذه بعين الاعتبار وهو يكمن في العنصر البشري الذي وجب إقرار تكافؤ فرص العمل بينه وبين باقي مكونات المجتمع الفرنسي اعتمادا على الكفاءة والأهلية وتفادي الاعتماد على معيار العرقية والذي يعتبره المواطن المغربي حيفا في حقه وإحباطا لمؤهلاته. فالمؤهلات المغربية وجب اعتبارها كقيمة مضافة عملية وعلمية وليست كضائقة أو كعبء على سوق العمل الفرنسي.
ثالثا، المستوى الاجتماعي والثقافي، ذلك أن الدستور المغربي الجديد حافظ على التعددية اللغوية وخصوصا مكانة اللغة الفرنسية بمؤسساتها وأطرها في حين يطالب المواطن المغربي المقيم في فرنسا بتمكين أبناءهم من تعلم لغة بلدهم من خلال إقامة مدارس يدرسون بها كما لو كانوا في بلدهم مثلهم في ذلك كمثل أبناء الفرنسيين المقيمين في المغرب. أما على مستوى التعليم العالي، فالمواطن المغربي يشكو من عدم تكافؤ الفرص والمساواة قصد ولوج بعض المؤسسات ذات التخصصات المتميزة مع إقصاء البعض من السكن بالحرم الجامعي علاوة على عدم استفادتهم من المنح أمام التكاليف الباهضة التي تفرض عليهم قصد متابعة دراستهم العليا ليبق مصيرهم معلقا بين الممكن والمستحيل. وفي هذا الاطار وسعيا من الحكومة المغربية لإثراء مجالات الدراسات العليا والبحث العلمي في المغرب والرقي به، فإن وزارة التعليم العالي المغربية تفتح أمام الجامعات والمعاهد العليا الفرنسية وغيرها وكذا الراغبين في الاستثمار في هذا الميدان، المجال للإستقرار والاستثمار في المغرب.
فكما هو الشأن بالنسبة للغة العربية، يبق الشأن بالنسبة لحرية ممارسة الشعائر الدينية. فإذا كان المواطن المغربي يسمح ويحترم أن تقام الشعائر الدينية السماوية منها على الخصوص، فهو يطالب أن يكون العمل بالمثل وأن تعمل الحكومة الفرنسية الجديدة باحترام مشاعره. فكما تعمل الحكومة المغربية على ضمان حقوق وواجبات الجالية الفرنسية المقيمة بالمغرب، فحكومة فرانسواهولاند مدعوة للحفاظ على كرامة وحقوق المليوني مغربي المقيمين في الديار الفرنسية ولعل إشراكهم في الانتخابات الأخيرة لخطوة جد إيجابية على درب إدماجهم والعمل على تعزيز تمثيليتهم داخل المؤسسات الفرنسية وخصوصا منها التشريعية والتنفيذية والعمل على تسهيل التجمع العائلي وتسهيل إجراءات الحصول على بطاقة الاقامة وتجديدها. فإحساس المواطن المغربي بالتهميش والتشردم لن يقوده إلا إلى الانخراط في سبيل العزلة والتطرف وهذا لا يتنافى فقط ومبادئ الجمهورية الفرنسية المرتكزة على الحرية والمساواة والأخوة بل يتنافى حتى والجهود القائمة بين البلدين لمحاربة التطرف والارهاب والذي قد يكون التهميش والإحساس بالحقد وغياب العدل ولا مساواة جزءا من ممبرات انتشاره.
كما أن هذا الاحساس ينمو وبتنامى كذلك عندما يتم تكديس ولا أقول تخصيص ضواحي المدن الفرنسية أو بعض الأحياء الهامشية كمجالات خاصة لإسكان أو لإيواء المواطن المغربي بالرغم من كون هذا الأخير يرغب لتوفره على الامكانيات المادية الازمة للسكن بالوسط الحضري. ذلك أن المواطن المغربي يجد نفسه إما أمام النفي بوجود مقر للسكن أو بتعجيزه بثمن مبالغ فيه ليضطر مكرها في ذلك للخضوع إلى الأمر الواقع والذي فحواه أنه لا مكان لك في الوسط الحضري "يا غريب" وأن مكانك هو الضاحية بجوار أمثالك. وللمواطن المغربي في الديار الفرنسية طلب للحكومة اليسارية الحالية، حكومة التغيير، أن تعميم ثقافة منافية لهذا النحو آخذة بعين الاعتبار لهذا المعطى الذي لا صلة له بشعار المساواة وآخذة بعين الاعتبار خصوصا الانفلات الأمني والغليان والاحتقان الاجتماعي الذي شهدته بعض ضواحي المدن الفرنسية خلال ولاية الرئيس اليميني ساركوزي المنتهية ولايته والتي علاوة على الاكتضاض وتنامي إحساس الحقد والتهميش، تفتقد هذه الضواحي (les bidonvilles ou les banlieues) لأبسط المرافق الضرورية للحياة (لا مركبات رياضية ولا ثقافية ولا نوادي ولا مكتبات ولا مسارح ولا... ولا...) موافاة مع غياب الأمن وتنامي ظواهر الانحراف والجريمة والمخدرات... إضافة إلى هذا، شرع بعض المواطنين في إعداد "مساجد" سرية مؤطرة بطريقة عشوائية ليمتزج في الضاحية مواطنون غالبا ما ينتهي بهم الأمر لاصطدامات تزهق فيها الأرواح. وبالتالي فحكومة السيد فرانسواهولاند مدعوة لإعادة النظر في التهيئة المجالية للمدن الكبرى أو ما يصطلح على تسميته بسياسة المدينة. ويتجرأ البعض للحديث عن إشكالية الاندماج دون تقويم تعريفه ولا مستلزماته.
إذا كان البعض وخصوصا تيار اليمين يؤكد أن تموقع المواطن المغربي في الديار الفرنسية هو رهين بمدى قدرته على الاندماج في مسلمات هذا الوسط الغربي، فمن الأكيد ان هذا التفسير إنما هو مجانب للصواب وخاطئ جوهرا ومضمونا وهو كلام مردود على متبنيه لكونه مرادف للانسلاخ عن الهوية الأصلية و"اقتباس"، كرها أو طوعا، هوية البلد المستضيف. وثمة مساحة شاسعة بين هذا التصور والتصور الصحيح للإندماج الداعي إلى الحفاظ والتمسك بالهوية مع احترام القوانين المعمول بها. يأمل المواطن المغربي من حكومة فرانسوا هولاند ألا يكون مضطرا و"مطالبا" بالانسلاخ من هويته المغربية تحت ذريعة الاندماج في الوسط الفرنسي. ذلك أن المملكة المغربية، عند استضافتها لمواطن فرنسي أو ذي جنسية أخرى، لا تجعل من الانسلاخ من الهوية مرادفا أو ملزما لاندماجه في الوسط المغربي.
ANOUNE64@gmail.com