ظن التونسيون أن انتهاكات حقوق الإنسان وممارسة جرائم التعذيب في المعتقلات، قد ذهبت إلى غير رجعة، مع زوال النظام السابق. لكن تقارير المنظمات الحقوقية كشفت تواصل هذه الممارسات في تونس، دون رغبة حقيقية للخوض في تفاصيلها.
مر عام ونصف على فرار الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي. ورغم ذلك، فتونس ما بعد الثورة، لم تتخلص من الإرث الثقيل، ولم تتجاوز بعد حقبة الماضي المظلم. وبحسب تقرير صدر عن الرابطة الدولية لحقوق الإنسان، فإن السجون التونسية وأقبية الأمن مازالت تعرف عمليات التعذيب. وفي ظل الصمت المطبق الذي يسود الأوساط الرسمية في تونس حيال هذا الملف، تحاول جمعيات الضحايا والمنظمات غير الحكومية إثارة الانتباه إلى حالات التعذيب المسجلة في السجون التونسية. مما دفع بالحكومة التونسية إلى تبني هذا الملف الشائك، ولو على استحياء. ومع ذلك، يبقى كل من أراد أن يدلي بشهادته في هذا الملف أو الخوض فيه بطريقة من الطرق، عرضة للخطر.
محمد بن عبد الله (اسم مستعار)، ضابط شرطة تونسي، كسر جدار الصمت، بعدما قرر التوجه إلى الرأي العام لتعرية ما تشهده السجون التونسية من تجاوزات. ويقول بن عبد الله، الذي يبلغ من العمر أربعين عاما، "أعلن أمام الملأ، أنني شاهد على عمليات التعذيب والقتل. لم يتغير أي شيء. هل يعقل ذلك؟ كلا، هذا لا يعقل". ويتابع بن عبد الله، الذي لا يريد ذكر اسمه الحقيقي، "حتى وسائل الإعلام خائفة. فمن أطلعتهم على الوثائق، رفضوا بسبب خوفهم".
إرث الماضي الثقيل
ويبدو أن إرث الماضي الثقيل ما زال جاثما على الجسد التونسي، الذي لم يتعافى بعد من مخلفات ممارسات الماضي. هذه الممارسات التي يعرفها الملازم بن عبد الله منذ عشرين عاما، حيث كان شاهدا على بعض منها في السجون التونسية، من خلال عمله في سلك الشرطة. وعاين عن قرب في سجن برج الرومي، سيء السمعة، جرائم اغتصاب في حق المعتقلين، وخاصة السياسيين منهم.
ويتذكر بن عبد الله، أن أول درس تعلمه، بعد أن التحق بسجن برج الرومي في مدينة بنزرت، هو كيف ينفذ ما يعرف بــ "الفلقة". والفلقة هي نوع من التعذيب عن طريق الضرب، حيث يتم رفع ساقي السجين إلى الأعلى مع ربطهما بإحكام، ليتلقى بعدها ضربات مبرحة على باطن رجليه. ويقول بن عبد الله، "رأيت أشياء فظيعة في سجن برج الرومي. المعتقلون كانوا يعذبون بشكل لا يخطر على بال".
استمرار جرائم التعذيب
ويعرف الضابط التونسي أسماء المسؤولين المتورطين في عمليات التعذيب، وبإمكانه أيضا أن يذكر تفاصيل، سيناريوهات التعذيب التي أودت بحياة السجناء. هذا الأمر، كلفه سلفا وظيفته في إدارة السجن عام 2003، في حين أن المسؤولين يحافظون على وظائفهم في مراكز الخدمة إلى الآن.
وبعد مرور أيام قليلة على سقوط نظام زين العابدين بن علي، قدم بن عبد الله طلبا للعودة إلى وظيفته في سلك الشرطة. لكن طلبه قوبل بالرفض. وفي خطوة مفاجئة، استجيب لمطلبه فيما بعد، فقط لأنه هدد في مقابلة مع إحدى المحطات الإذاعية، بأنه سيجمع السجناء السابقين من أجل الإدلاء بشهادتهم بخصوص قضايا التعذيب في السجون. لكن بن عبد الله سيكتشف بعد عودته للعمل في سجن مدينة المسعدين القريبة من مدينة سوسة أن لاشيء تغير، والتعذيب مازال يمارس في السجون.
عدم الخوض في جرائم التعذيب
وفي سجن المسعدين، سيكون بن عبد الله شاهدا على اغتصاب إحدى السجينات، إضافة إلى تهريب المخدرات إلى داخل السجن. وحتى بعد تبليغه عن هذه الحوادث، لم يحدث أي شيء. ويقول بن عبد الله، غير مصدق لما يجري، متسائلا "أن يحدث ذلك خلال حقبة بن علي، فذلك كان مألوفا. لكن بعد الثورة؟. ويردف، باحثا عن الخلاص، قائلا: "هناك احتمالين: الأول هو أنني على حق في ما أدعي، ويجب فتح تحقيق في الموضوع أو أنني أكذب، وفي هذه الحالة يجب محاسبتي".
وفي نفس السجن، الذي عين فيه، بعد عودته إلى الخدمة، سيلتقي بن عبد الله مع رئيسه السابق الذي كان يعمل تحت إمرته، عندما كان يباشر عمله في سجن برج الرومي. ويتعلق الأمر هنا بعماد العجمي، الذي يقال أنه متورط في عمليات التعذيب، التي كان سجن برج الرومي مسرحا لها خلال حقبة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي. وحتى بعد الثورة استطاع عماد العجمي البقاء في وظيفته كمدير للسجن، وأيضا كمستشار للمدير العام للسجون التونسية.
تحركات بن عبد الله أزعجت مسؤولي السجون، الذين طالبوه بالتزام الصمت. وفي خريف عام 2011 سيتم طرده من جديد. ولإيصال صوته، لجأ بن عبد الله إلا الصحافة التونسية. وتمكن من العودة إلى وظيفته من جديد. لكن عودة بن عبد الله إلى الوظيفة، لم تخفف من وقع صدمته. فهو مازال يؤرقه أنه لم يتغير أي شيء لحد الآن رغم فضحه لما يجري داخل السجون. ويقول بن عبد الله أن "أقواله لم تدون، حتى لا يكون بعد ذلك أي شيء رسمي يستند إليه". ويستطرد بن عبد الله قائلا: "بصراحة، أنا خائف على حياتي، لدي انطباع أنهم يدبرون شيئا ما... يرغبون في أن أفقد صوابي أو أنهم سيدبرون لي حادثا كي يتخلصوا مني".
ويبدو أن الحكومة الانتقالية في تونس، مازالت في حاجة إلى مزيد من الوقت، للقطع وبصفة نهائية مع جرائم التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان في السجون التونسية. وفيما يرى البعض أن ذلك لن يتم إلا بإحالة المسؤولين عن هذه الانتهاكات لردهات المحاكم. يرى البعض الآخر، أن فضح هذه الممارسات وعدم السكوت عنها، كما يفعل بن عبد الله، هو الطريق الأمثل لردع من المسؤولين عنها.
ألكسندر غوبل/ عادل الشروعات
مراجعة: طارق أنكاي