أضيف في 09 ماي 2012 الساعة 19 : 13
تمثل ثورة الفل في مصر ثمرة الربيع العربي الثانية بعد ثورة الياسمين في تونس، إذ استلهم المصريون أساليب الاحتجاج السلمية وشعار «ارحل» من التونسيين وطوروها إلى اعتصام مفتوح في ميدان التحرير انتهى بالإعلان عن تنحي مبارك عن منصب رئاسة الجمهورية. كان انتصارا باهرا للثورة شغل شباب ميدان التحرير بمصير مبارك وأعوانه دون مستقبل مصر ومصير الثورة، إذ تواصلت الاعتصامات إلى حين بدء محاكمة رموز النظام السابق، فكانت أولى الأخطاء اعتقاد الثوار أن محاكمة الرئيس هي غاية الثورة ومبتغاها. لقد تُركت الثورة دون حراسة تؤمنها من مخاطر الانزلاق أو الاختطاف، وترسم لها معالم التغيير السياسي والدستوري على قاعدة المساواة والحرية والكرامة والمواطنة، لكن سرعان ما ظهرت قوى سياسية كانت مناهضة للثورة أو تساوم على حسابها، فركبت الثورة وحادت بها عن الأهداف الأصلية لقيامها. وكانت مجريات الإعداد للانتخابات الرئاسية تسير وفق أجندة متوافق بشأنها بين القوى السياسية والمجلس العسكري الذي وعد بتسليم السلطة إلى رئيس منتخب في نهاية شهر يونيو كأبعد تقدير، لولا ما أفرزته عملية انتخاب اللجنة التأسيسية التي استحوذ عليها الإسلاميون من تشنجات وانسحابات شملت معظم القوى السياسية بما فيها الأزهر الشريف احتجاجا على الميول الاستحواذية لجماعة الإخوان المسلمين، لكن الذي فجر الأوضاع الأمنية ودفع بمصر إلى حافة الانهيار هو غياب الحس الوطني لدى بعض الأطراف، خاصة التيار الذي يقوده حازم أبو إسماعيل- المرشح السلفي للرئاسة الذي استبعدته اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية من السباق الرئاسي، وهو الأمر الذي لم يستسغه حازم أبو إسماعيل فدعا أنصاره إلى التظاهر والاعتصام أمام مبنى وزارة الدفاع وفي محيطها من أجل الضغط على المجلس العسكري، وحمله على التراجع عن قرار إجراء الانتخابات الرئاسية في ظل الإعلان الدستوري وخاصة المادة 28 منه، وتفعيل قانون العزل السياسي، واستبعاد أحمد شفيق من الانتخابات الرئاسية. وما يدل على أن حازم أبو إسماعيل لم يكن يسعى لاستقرار مصر ودعم جهود التغيير الديمقراطي السلمي، قدر سعيه إلى إحراق البلد ودفعه إلى الكارثة، هو التحريض العلني لجموع المعتصمين في ميدان التحرير وميدان العباسية ومعهم الشعب المصري «للجهاد» ضد المجلس العسكري وشنق جميع أعضائه، وهذا ما أقدم عليه الشيخ حسن أبو الأشبال أحد مشايخ التيار السلفي المساندين لحازم صلاح أبو إسماعيل من خلال مداخلاته الإعلامية أو خطبة الجمعة التي ألقاها بميدان التحرير. فقد دعا الشعب المصري إلى الخروج إلى العباسية، والإحاطة بالمجلس العسكري ووزارة الدفاع من كل جانب، والقبض على أفراد المجلس العسكري شخصا تلو الآخر لإعدامهم، قائلا: «لا أظن أن المحكمة العاجلة لا تقل عن إعدام هؤلاء جميعا وقتلهم وذبحهم في ميدان العباسية كما ذبحوا شعبنا وأبناءنا». وفي مداخلة له على قناة الحكمة، مساء الأربعاء 2 ماي، دعا الشعب المصري إلى الجهاد قائلا: «أقول للشعب كله لقد حان وقت الجهاد فى سبيل الله، فحي على الجهاد ولا سبيل لرفع راية الأمة ونصرة الدين، إلا بالجهاد فى سبيل الله، وكنا نقول من قبل إنه لا يمكن أبدا للشعب المصري أن يحقق مطالبه إلا باختيار النموذج الليبي». إنه تحريض فج على إشعال فتيل الفتنة والحرب الأهلية يستوجب تقديم صاحبه إلى المحاكمة كما طالب بذلك عمرو موسى، واستنكره سليم العوا الذي قال غاضبا: إن الشيخ أبو الأشبال كفر 19 رجلا بلا دليل، وهذا ليس موجودا في الدين الإسلامي»، مؤكدا أنه لو كان مكان المجلس العسكري لأحال هذا الرجل إلى مكتب النائب العام، لأنه ارتكب تهمة التحريض على قتل 19 رجلا من رجال القوات المسلحة.
إن اتهام الفلول بالتخطيط للاعتداء على المعتصمين يفقد مصداقيته أمام عاملين: الأول تحريض أبو الأشبال على العصيان والجهاد والقتل، وهذا ما حصل في ميدان العباسية؛ الثاني: أذى الفلول لم يصب المعتصمين بميدان التحرير. وكان الأجدر بالأطراف السياسية المناهضة للمجلس العسكري أن تحرجه مع الرأي العام المصري والدولي في حالة قراره تزوير الانتخابات أو الاحتفاظ بالسلطة. لهذا كان الاعتصام في العباسية تصفية حساب مع المجلس العسكري. ومهما كانت طبيعة الاختلاف والصراع مع المجلس العسكري، فإن التحريض على القتل وإشعال الفتنة هو جريمة بكل المقاييس الدينية والقانونية والأخلاقية. فالشعب المصري خاض ثورته من أجل الحرية والكرامة والاستقرار والتنمية، ولم يقدم شهداءه وجرحاه ليفتح باب الشرور على مصر ويرمي بها نحو المجهول، ذلك أن الفتنة ستزيد حدة الأزمة الخانقة التي تعيش فيها مصر. وكان من المفروض في كل من في قلبه حب لمصر أن يمد يده للبناء، ولا يحولها إلى معول للهدم والتخريب. فالأمن أسبق من الرئاسة وأولى. وعلى القوى السياسية جميعها أن تتجاوب مع دعوة الأزهر إلى التوافق الوطني من أجل مواجهة المخاطر التي تحيط بالوطن في المرحلة الحالية، وحل أزمة تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، حيث اعتبر "أن السبيل للخروج من هذه الأزمة هو التوافق لمواجهة التحديات المطروحة، ما يقتضي تنازل جميع الفرقاء عن جانب كبير من تحيزاتهم ومصالحهم ورؤاهم، حتى يلتقوا في منتصف الطريق، وينجحوا جميعًا في تحقيق أهداف الثورة النبيلة، في العيش المشترك والعدل الاجتماعي والحرية والكرامة، ويتمكنوا من صناعة مستقبلهم على أساس متين دون إحباط أو إخفاق"، فالأزمة الخانقة التي تعانيها مصر تتطلب توفير أسباب الاستقرار. وهذا ما شدد عليه الخبير الاقتصادي محسن خان من معهد "بيترسون" بواشنطن بأن مصر بحاجة إلى استقرار سياسي أولا حتى توفر جو الثقة الذي يسمح للمؤسسات المالية الدولية بتقديم القروض التي تساعد على تصحيح المسار الاقتصادي، ذلك أن مصر بحاجة إلى 15 مليار دولار على شكل قروض وهبات واستثمارات أجنبية، وإلا، فإن مؤسسات دولية تحذر من أن الجنيه المصري الذي فقد 4 في المائة من قيمته مرشح، لأن يفقد ما يزيد عن 25 في المائة خلال نهاية العام الجاري. أضف إلى ذلك، تدني قيمة الصكوك الحكومية التي أصدرت أخيرا، ما يهدد بتراجع العملة حتى إلى 45 في المائة، إذا استمرت المؤشرات الراهنة. لقد كشفت دراسة مصرية حجم الخسائر التي لحقت بالاقتصاد المصري بعد "ثورة 25 يناير" بنحو 172 مليار جنيه (29 مليار دولار) همت أساسا قطاعات السياحة والطيران والغاز والصناعة والتجارة الداخلية والخارجية والقطاع العقاري والاتصالات وقطاع الترفيه. فالمديونية المحلية زادت من 888 مليار جنيه إلى 1044 مليار جنيه من بعد الثورة، كما زاد الدين الخارجي من 34,5 مليار دولار إلى 36 مليار دولار. كما كشفت الدراسة نفسها أن الناتج القومي انخفض من 1,2 تريليون جنيه سنويا إلى 680 مليار جنيه سنويا، وبلغت خسائر البورصة المصرية التي أغلقت 55 يوما بعد اندلاع الثورة، مباشرة بسبب نزيف الخسائر 450 مليار جنيه، وكذلك إغلاق البنوك 23 يوما. وانخفض معدل السياحة من 12,5 مليون سائح سنويا إلى 2,5 مليون سائح، وأدى إلى انخفاض إيرادات السياحة من (12 مليار دولار) سنويا إلى (2,8 مليار دولار) في الفترة نفسها. والتحذير نفسه وجهه الباحث الدكتور عادل عامر، رئيس مركز المصريين للدراسات الاقتصادية من أن الأزمة الاقتصادية تتفاقم، بحيث أن احتياطيات البلاد من العملة الأجنبية انخفضت من 36 مليار دولار إلى نحو 10 مليارات دولار فقط، ويمكن أن تنفد تمامًا بحلول ثلاثة أشهر. كما أوضح أن الاحتياطيات تنكمش في الآونة الأخيرة بمقدار ملياري دولار شهريًا. فهل الأحزاب السياسية والتيارات الدينية تسعى لحكم مصر "خربانة"؟ فمصر بحاجة إلى رجال يحمونها وليس دعاة "يشعلوها".
بقلم : سعيد الكحل, أستاذ باحث
|