أعلن فخامة رئيس الحكومة الحالية وبشكل رسمي أمام الجماهير، التي احتشدت للاستماع إليه بمناسبة فاتح ماي، أنه من أبناء الشعب. بل ولم يغفل الإشارة حتى إلى الحي الذي ولد وترعرع فيه. هكذا، فالسلطة التنفيذية تفتخر بالانتماء إلى أصول شعبية تدعيها علنا وأمام الملأ، وتستمد منها شرعيتها التي تعيد صياغتها كلما أحست بأن الوهن أخذ يدب فيها، وذلك من خلال التلويح الصاخب بخطر الشارع الذي يدعي، عن حق أو عن باطل، أنه يمثل طليعته.
لا شك أن جلالة الملك يتمتع من جانبه بشرعية تكرسها البيعة التي تعتبر تعبيرا عن الالتفاف الشعبي حوله، ولكنه يتمتع كذلك بسلطة ذات طبيعة خاصة تشكل نواة شرعيته، ويستمدها من أصوله الشريفة. ولهذا لم تكن العرب تطلق تعبير "أبناء السماء" على السلالات الملكية هكذا. فإذا كانت شرعية السلطة التنفيذية أفقية فإن الشرعية الملكية ذات طابع هرمي. وطبقا لهذا التحليل فإن رئيس الحكومة يتغذى على قاعدته الاجتماعية، أو بتعبير أدق، شريحة الناخبين التي كونت تلك القاعدة، بينما الملكية، التي تغطي بسلطتها كل المجتمع الموجود في قاعدة هرمها، تستقر في قمته، وهو ما يجعل منها "وسيطا" (relais) مع السماء. وبالتالي بما أن الملكية ابنة السماء فهي تتشكل "من الأعلى" (par le haut)، أما رئيس السلطة التنفيذية فوجوده يقتصر على الأرض. و"الجلالة" تحمل إشارات إلهية نابعة من طبيعتها، واللفظة تشير بتحوير خفيف إلى الله ذو الجلالة. وهذا يؤكد على مضمونها المقدس والسحري.
إن السعي إلى بلوغ مرتبة "الامتياز" و"الفخامة" (l’excellence) يكشف عن وجود منافسة هي التي تخول للفاعلين السياسيين الأكثر حنكة الوصول إلى السلطة. وتلك المرتبة تظل ثمرة لمسار طويل من التعلم والتمرن، وتتوج مسيرات رجال السياسة القادمين من مختلف الأوساط الاجتماعية. أما "الجلالة" فهي، على العكس من ذلك، قضية "طبيعة" (question de nature)، وبما أنها ليست للاستحواذ فهي لا تأتي لتتويج مسيرة ناجحة. إنها "هبة" (don) نابعة من "نبل الأصول". وبالتالي فهي ليست، ولن تكون، موضوع منافسة كما هو الحال مع مرتبة "الفخامة". "الجلالة" تمنح الوقار وتعبر عن نفسها من خلال تلك "الهيبة"، التي يمكن أن تعوز "الفخامة". إن هذا الاختلاف في المستوى- بما أن "الجلالة" توجد في مرتبة أسمى- توضح، أكثر من النصوص الدستورية، صلاحيات السلطات المعنية هنا. وإذا كان الملك يبارك عددا من قرارات رئيس الحكومة فإنه يتمتع بسلطات حصرية على مجالات أخرى يملك لوحده مفاتيحها. وبغض النظر عن المجالات الاقتصادية الإستراتيجية فإن بقاء الفتوى- وهي تعني اللجوء إلى السماء، بين يدي الملك يعطي صورة قوية حول الطبيعة الخاصة للسلطة الملكية.
إذن فهذا الإطار هو الكفيل بجعلنا نفهم بشكل أفضل العلاقات بين الملكية والحكومة الحالية. ولعلنا نلمس بطريقة أوضح المنطق التي يحكمها إذا ما نظرنا إلى حكومة بنكيران المنبثقة حقا عن انتخابات حظيت بالإجماع.
إن تلاشي أهمية وظيفة المستشار الملكي، التي أفرغت بالتدريج من مضمونها منذ تولي الملك محمد السادس الحكم، يعتبر مؤشرا قويا على طبيعة تلك العلاقات وعلى عملية إعادة البناء التي تخضع لها(...). ويبدو أن الملكية تتحصن، إن صح التعبير، في بيتها التاريخي الذي يجعلها "سلطة خاصة"، تعلو على كل السلط الأخرى، ولا مجال للخلط فيما بينها. والتعيينات الأخيرة التي كانت تبدو للوهلة الأولى أنها تعيد وظيفة المستشار الملكي إلى السكة، لم تكن في واقع الأمر سوى تأكيد ميل تلك الوظيفة نحو التراجع(...)
إن وضع بعيدا عن الهيئات الحكومية المعرضة للتقلبات الاجتماعية، فالمؤسسة الملكية تبقى بعيدة عن التقلبات الظرفية وتحافظ على ذلك السمو الذي تستقي منه أصولها. وبالتالي فهذا "التحصن" ليس نتيجة لـ"عمى تاريخي" (myopie historique) بل هو نوع من الإجابة لذلك الحدس الذي اكتسبته الملكية من خبرتها التاريخية وقدرتها العالية على البقاء على قيد الحياة. ومن هذا المنطلق يمكن القول إن علاقة الملكية بالشعب لا تتم عبر الهيئات المنتخبة، بل عبر تلك الشرعية المبهمة الخفية (transcendantale). بعبارة أخرى، إنها تدخل في نطاق ما لا يمكن طرحه للنقاش.
هكذا يجد رئيس الحكومة نفسه رهين التقلبات التي تعيشها القاعدة، ويفترض فيه تقديم الحساب للشارع الذي يدعي الانتماء إليه. وعلى كل حال فيبدو أنه أخذ يعي شيئا فشيئا «نموذج السلطة"(paradigme autoritaire) المعقد الذي يعتبر أحد عناصره. فهو غالبا ما يلجأ مضطرا إلى السلطات العليا لحلحلة الأوضاع التي لا تسعفه فيها كفاءته النظرية. إنها طريقة أخرى للتعبير عن الولاء والاعتراف بالمكانة الخاصة للملك !
عن "شالنج"