منذ الثلاثينات من القرن الماضي، طغت رؤية وطنية عروبية كان قوامها طمس التعدد الثقافي واللغوي المغربي المتعدد الروافد في نظرة للمجتمع والثقافة أحادية و متوحدة قوامها سيادة العربية كلغة و سيطرة النزعة العروبية كصيرورة حتمية للشعب المغربي ومصدرا لتحرره وانعتا قه من ربقة الاستعمار والامبريالية و غيرها من الأنظمة التي كانت تستهدف سلب ماضيه وحاضره ومستقبله.
من هنا نفهم نزعة الحزب الوحيد التي سادت في الخمسينات من القرن الماضي( و التي كان لها نصيبها الوافر من الدموية والعنف السياسي الذي لم تتوقف عنده، وللأسف الشديد، هيئة الإنصاف والمصالحة) و انتصار مفهوم الدولة اليعقوبية في فترة ما بعد الاستقلال, وانطواء الحركة الوطنية على ذاتها كالوريث الوحيد لحقيقة النضال الوطني إبان الاستقلال و خلال فترة بناء الدولة ما بعد –الكلونيالية.
في المقابل نجد شتات العناصر التي لم تجد في ذاتها في الحكي المتعالي méta-récit)) للخطاب الوطني ( والذي صار قوميا في الستينات والسبعينات في خضم الصراع العربي الإسرائيلي والحرب الباردة) والمكونة من عناصر جيش التحرير وليبراليي الشورى و الاستقلال والعناصر الأمازيغية ذات الأصول الريفية التي أسست الحركة الشعبية كأول منافس حقيقي للحركة الوطنية المتبرجزة و المتمدنة.
غير أن منافسي الخطاب الوطني و الذين أسسوا بدمائهم ونضالهم للتعددية السياسية والإيديولوجية والثقافية لمغرب ما بعد الاستقلال وجدوا أنفسهم في موقف دفاعي على العقود، إذ سيطرت البورجوازية الصغرى والمتوسطة المتشبثة بالفكر الوطني الأحادي على دواليب الدولة و على مستوى صناعة الرأي بالمغرب.
كان على رواد الاختلاف الثقافي والتعددية اللغوية الانتظار إلى حين اندحار الأيديولوجيا القومية في الثمانينات (خصوصا بعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية وصعود نجم التيار الإسلامي المتعدد المشارب ) و سقوط حائط برلين ( حيث أن المعسكر الشرقي كان ضامنا لاستمرار الإديولوجيات الشمولية)، و بروز حركات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات و نمو دور المجتمع المدني، و ظهور بديل قوي للميثولوجيا القومجية، من أهم سماته النهضة الثقافية الامازيغية، وظهور جمعيات المجتمع المدني، و نمو الصحافة المستقلة, واتساع رقعة حقوق الإنسان ونمو الاهتمام بقضايا المرأة و الطفولة و الفئات المهمشة و غيرها.
جاء خطاب أجدير كتتويج لنضالات جمعيات ثقافية وحقوقية امازيغية و أحزاب( خصوصا الحركة الشعبية منذ نشأتها قبل خمسين سنة والتقدم والاشتراكية منذ حوالي ثلاثين سنة) و دشن لمشروع إعادة الاعتبار للغة الامازيغية من خلال معيرتها وإطلاق مسلسل تعميمها في التعليم العمومي و تنمية البحث بشأنها و بشان الثقافة الامازيغية بشكل عام، وتسهيل ولوجها نطاق الإعلام السمعي البصري الخ....
لقد تحقق الشيء الكثير في العشر السنوات الأخيرة حيث تم إنهاء مسلسل المعيرة ووضع اللبنات الأساسية للغة الامازيغية الموحدة و التقدم في إدخال الامازيغية إلى المدرسة وتم إحداث القناة الامازيغية الخ....غير أن الانجازات رافقتها عراقيل و معوقات مختلفة بعضها بنيوي وبعضها ذي طبيعة إيديولوجية و ثالثها سياسي محض. لهذا صار شعار الدسترة و الذي رفعته الجمعيات الامازيغية و أقرته أحزاب من خلال برامجها ( مثلا الحركة الشعبية تبنت الدسترة في مؤتمرها الأخير في 2010 ) ملاذا لتجاوز هذه العراقيل و للمرور لمرحلة أكثر ديمقراطية في التعامل مع الحقوق الثقافية و مسالة التعدد الثقافي واللغوي كمصدر غنى و ثراء بالنسبة للثقافة والشخصية المغربيتين .
النقاش الذي صاحب عملية الدسترة كان مفيدا رغم أنه كان سجاليا في بعض الأحيان. من جهة أخرى أنا لا أشاطر من يقول أن الترتيب الشكلي بين العربية كلغة رسمية و الامازيغية كلغة رسمية أخرى ينم عن تراتبية أو حكم قيمة. لا يجب أن ندخل في متاهات التحليل السيميولوجي للشكل الذي وردت به الدسترة خصوصا في علاقتها مع العربية. إن الدخول في نوع من الثنائية المانوية بين الأمازيغية والعربية غير مفيد لأنه سيؤدي بنا إلى متاهات التضاد فيما بينهما وما يقتضيها ذلك من كوطا و تمثيلية و غيرها وهي أمور نحن في غنى عنها.
من يأسفون لعدم دسترة المعهد الملكي للثقافة الامازيغية لم يقرؤوا الدستور جيدا لأن هذا الأخير يقول في الفصل الخامس بضرورة إحداث مجلس وطني للغات والثقافة المغربية و هو الذي سيسهر على ترجمة الإقرار بالتعدد اللغوي والثقافي في المجتمع المغربي وبوجود العربية و الامازيغية جنبا إلى جنب كلغتين رسميتين إلى الواقع.
وفي هذا الإطار فان المطلوب بعد المصادقة على الدستور هو الإسراع بإخراج هذا المعهد إلى الوجود و تغيير مهمة المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ليصير مؤسسة أكاديمية تعنى بالبحث في قضايا الثقافة والتراث و اللغة الأمازيغيين.
أما على المستوى القانوني، فيجب التفكير في وضع سياسة تدريجية على مستوى القانون التنظيمي تقتضي تحديد الأولويات و تحديد القطاعات التي تكتسي صبغة أولوية ومستعجلة والمرور إلى قضايا أخرى في فترات لاحقة. في هذا الإطار أقترح أن يتم تغيير اسم وزارة الثقافة لتصبح "وزارة الثقافات المغربية و تدبير التعدد اللغوي" و يتم تزويدها بالموارد لكي تسهر على تنفيذ السياسات العمومية في هذا الإطار.
أخيرا أظن انه آن الأوان لإعادة قراءة تاريخ المغرب الحديث.إن سيطرة الحكي المتعالي للحركة الوطنية على كتابة تاريخ المغرب منذ الاستعمار إلى الاستقلال أحدث حيفا كبيرا و نسج نسقا أحاديا و "غائيا" téléologique) ) غيب رؤى و حكايات بديلة أو رمزية وكبتها باسم وطنية كانت في أغلبها مجحفة و مهيمنة أكثر منها جامعة أو قابلة للاختلاف .على الجامعة و دور البحث و المفكرين والباحثين أن يُقبلوا على إعادة الكتابة هذه. هكذا سنتصالح مع التاريخ مثلما سيساعدنا مشروع الدستور الجديد على التصالح مع كوننا كنا دائما نعيش في إطار تعددية ثقافية غنية، جامعة وشاملة.