الحسن سرات
ألا لا يظنن الإسلاميون أنهم وحدهم الذين صنعوا الربيع العربي الديمقراطي وكانوا فيه من الحاضرين، ولا يدعن –بفتح الدال وضم العين- الغرور يتلبس بهم فلا يرون لغيرهم فضلا ولا حضورا. ذلك أن للربيع العربي صناعا حضروا قبل بروز هؤلاء الإسلاميين وكانوا في الظهور من الزاهدين.
لا جرم أن الإسلاميين دفعوا ثمنا كبيرا للحرية الغالية عقودا عددا قاربت القرن أو تجاوزته قليلا، وفيهم يصدق قول العلي الحكيم (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا).
والتغيرات الكبرى لا تولد بين ليلة وضحاها، ولكن غمامها الممطر يتراكم عبر العقود والأجيال، حتى يأتي اليوم الذي ليس منه مفر، فيفور التنور وتهطل السماء بماء منهمر، ولا يوقفه شيء حتى تجري السفينة في موج كالجبال ثم تستوي على الجودي، ويقال يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي.
وليس الإسلاميون طائفة واحدة، إنما هم فصائل وفسائل، وجماعات وتيارات، ووعاظ ومرشدون، وخطباء ومفتون، وعلماء ومفكرون، وكتاب وأدباء، وفنانون ظاهرون ومغمورون، وفيهم أهل التفقه وأهل التحكم وأهل التدين، أو قل مع طه عبد الرحمن فيهم أصحاب العقل المجرد، وأصحاب العقل المسدد، وأصحاب العقل المؤيد. غير أن الأصابع تشير دائما إلى أهل التسيس والتحكم، وتتغافل أهل التفقه، وتنسى تمام النسيان أهل التجرد، وجميعهم شركاء في "العمل الصالح" و"العلم النافع"، وإن اختلفت النسب فيما بينهم. وقد يكون العكس صوابا مهجورا، فيصبح أصحاب التجرد والخفاء أحسنهم عملا، وأكثرهم بلاء، واشدهم فتنة، ولكنهم لا يصرخون ولا يطلبون ولا يطمعون.
عندما كانت طلائع الإسلاميين تظهر مع الليل إذا عسعس بالغفلة، والصبح إذا تنفس باليقظة، وعندما كانوا يختبئون على تخوف وترقب في دار الأرقم بن أبي الأرقم، كان الدكتور طه عبد الرحمن –وحيدا فريدا- يصول ويجول في ساحات المواجهة الشرسة الدينية والفكرية ضد الملاحدة والعلمانيين، من أحزاب اليسار وأحزاب اليمين، وكانوا جميعا له من الكارهين والمحاربين. تلك أمة قد خلت بعد أن بغت واستأسدت، وظنت أنها في الغالبين الخالدين.
قيل عن طه في تلك الأيام الخالية، هذا مجرد مريض يأتيه رئي من الوسواس فيملي عليه الأفكار والأنساق الفلسفية المنمقة، فلا تأبهوا بظاهرة عابرة ستحاصرها يد الإلحاد ويد الاستبداد، فتخنس كما تخنس النجوم وتغور. فتظاهرت عليه اليدان رغم عداوتهما الواضحة. تخاصمتا حتى فجرتا، وتطاحنتا حتى تعبتا، ولكن الحرب على طه وحدت بينهما. وانكسرت في النهاية اليدان، وخرج طه ظاهرا منصورا، وتراجع الإلحاد مذموما مدحورا.
كنا معشر الإسلاميين نجد الملاذ في طه وعقله الجبار إذ ينتج الفكرة وراء الفكرة، والمنطق وراء المنطق، والتكوثر بعد التكوثر، ونجد في فؤاده الواسع إذ يرى ما لا نرى، من آيات ربه المثلى، فكان "جسده في الحانوت وقلبه في الملكوت". وعندما فركنا الأبصار ومسحنا عشى الأعين بعد اليقظة وشرعنا نعمل للدين، وجدنا طه قد سبقنا مسافات طويلة وارتاد الآفاق البعيدة، فكتب ناصحا أمينا كتابه الجميل "العمل الديني وتجديد العقل".
كم كنت علينا مشفقا يا طه. كم كان عزيزا عليك العنت الذي كان يتربص بنا. كم كنت علينا حريصا كأنك الوالد الرؤوف الرحيم، إذ يرى فلذات كبده يمضون حتفا إلى النار المحرقة كأنهم الفراش المبثوث، فلا يستطيع ردهم عنها ولا الوقوف أمامهم دونها، ولكنك كنت تقول: دعهم.. سيعودون.. دهم سيعقلون.. فهل عادوا وهل عقلوا؟
ما أحكمك وما أبعد نظرك. تركتهم يهرعون للسياسة وأحزابها وحروبها، وبقيت مرابطا في الثغور الخطيرة التي تركت دون قائم عليها. ولنعم ما فعلت. في كل مرة كنت تلقي سفرا من أسفارك، وصحيفة من صحفك، وأجزاء من كتابك الكبير. والعدل يلزمنا أن نعترف أن جبهة الفكر والنظر تركت فارغة، وأن حراس الجبل تركوا أماكنهم وتسابقوا نحو المغانم والأنفال، وما دروا أنهم فرطوا وسقطوا، لولا أن القدر أبقاك من ورائهم ترقب وتحرس، وكلما حاول مارد من المردة التسلل من تلك الثغور قذفتهم من كل جانب، فارتدوا دحورا.
وعندما حمي الوطيس تذكر أولئك الإسلاميون أنهم تركوا ظهورهم مكشوفة، وأن الذين كلفوا بالحراسة غادروا أماكنهم، وعندما استداروا وجدوك في الثغر قائما تقول "كفيتم.. كفيتم"، وتنظر إليهم نظرة العتاب، فهل أدركوا مهابة المقام وعذوبة الملام؟
يا ويح قوم أضاعوا فتيانهم ليوم كريهة وسداد ثغر. يا ويح قوم يصدق فيهم قول القائل "وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر". يا ويح قوم سفكوا دم العندليب.
أنا واحد من الذين أدمنوا على صحف طه. أنا واحد من "أبناء يعقوب" الذين أورثوا أباهم الحزن الحزين والقلب الكظيم، وهو مع ذلك يجاهد نفسه ألا يقسو عليهم، حتى رفع يوسف أبويه على العرش وخروا له سجدا معترفين، فقال لا تثريب عليكم. اليوم يغفر الله لكم.
وكثير من قراء طه لا يقاومون قوة الأفكار وتماسك البنيان الفلسفي وسمو المنطق الأخلاقي، سواء في نصيحة الإسلاميين أو فضيحة العلمانيين.
وأنا، وإن كنت من فريق الموافقين، فإن أشد ما يبهرني في ما يسطر طه روعة البيان، وسحر الكلام، وجمال الأداء اللغوي، حتى يخيل إلي أني لست أمام فيلسوف كبير فحسب، ولكني أمام شاعر عظيم حكيم أوتي حلاوة الكلم. فكأن كلامه "تنزيل من التنزيل" كما قال سعد زغلول عن الرافعي وكتابه الخالد "وحي القلم".
وإذا كتب لك أن تقترب من طه وتجلس بين يديه، فكن على يقين أنك تجلس مع رجل غادر هذه الحياة الدنيا، فهو يحدثك من عالم الغيب. أليس عالم الغيب هم الحق وما سواه زائل؟ أليست حقيقة إيماننا أن نخرق ستار الشهادة لنطلع على الغيب؟ أليس مطلوبا منا أن ننظر إلى الشهادة ببصيرة الغيب؟
ذلكم بعض من طه. من بنى للحكمة منتداها، وكان فارس ليلها وضحاها. رجل لا يجارى ولا يضاهى. فكيف نتخلص مثلك من الدنيا وبلواها، ونلحق بالآخرة وعلاها؟