يستطيع المتتبع لخطاب الرافضين للدستور إدراك الغموض والتذبذب الحاصلين في ردودهم وتبريراتهم التي يسوقونها لتعليل مقاطعتهم للدستور، هذا التذبذب الذي تجلى أساسا في موقف كل من اليسار الجذري وجماعة العدل والإحسان وهما التياران اللذان لم يقدما مذكرتيهما حول الإصلاح الدستوري أولا إحراجا للجنة وثانيا للبناء على ذلك ليكون رفض الدستور مبررا. ومقابل ذلك يصران على مطلب لجنة تأسيسية منتخبة في تلميح ضمني إلى عدم اعترافهم بشرعية النظام الملكي وهذا ما لم يستطيعوا التصريح به بوضوح تام.
بل يمكن الجزم بأن هذين التيارين كانا يراهنان على دفع حركة 20 فبراير إلى تأزيم الوضع ومحاولة تحقيق إجماع شعبي يمكن أن يؤدي تدريجيا إلى المطالبة بإسقاط النظام.
وتبعا لذلك يحاول هؤلاء تصوير الصراع في المغرب على انه بين جهتين: الشعب بكل توجهاته المتناقضة ومكوناته السياسية والدعوية والنقابية و الجمعوية في جهة والنظام الملكي في جهة مقابلة كما حدث في تونس ومصر وكما يحدث في باقي الأقطار.
إن مثل هذه الصورة غير صحيحة لأن أصحابها يتجاهلون حقيقة جوهرية تتمثل في أن الفاعلين الرئيسين في المشهد السياسي المغربي وفي المجالين الحقوقي والثقافي غير متفقين على مرجعية الدولة في المغرب وطبيعة النظام والعلاقة بين التشريعات الإسلامية والوطنية والمواثيق الدولية وكيفية تدبير القضية اللغوية.
يكرس هذا التجاهل إصرار هؤلاء على تصنيف كل من قال "نعم" للدستور في دائرة المخزن أو النظام وكل من قال "لا" أو قاطع الدستور في صفهم وبالتالي في صف الشعب متجاهلين قوى حقيقية إسلامية ووطنية جمعوية وسياسية وحقوقية يعلمون جيدا أنها قالت "نعم" عن قناعة ووعي وليس إرغاما أو تزلفا للنظام.
بل إن احد هذه المكونات الإسلامية ممثلة في حركة التوحيد و الإصلاح وحزب العدالة والتنمية وقيادي بارز في حزب الاستقلال ضغطت بقوة لإخراج دستور ينص على هوية الدولة الإسلامية ويجعل قوانينها تسمو على القوانين والمواثيق الدولية.
وعلى الرغم من من تطابق موقفي اليسار الجذري وجماعة العدل والإحسان من الدستور ومطالبتهما معا بلجنة تأسيسية منتخبة فانه لا بد من تسليط الضوء على هذين الموقفين.
موقف اليسار الجذري
يتأسس موقف هؤلاء الرافض للدستور سواء بالمقاطعة أو بـ "لا" على مبرر أن الطريقة التي وضعت بها لجنة صياغة الدستور غير ديمقراطية ولم تنتخب من الشعب مع العلم أن التيار اليساري العلماني حاضر فيها بقوة مقابل غياب التيارات الإسلامية، والبديل في رأيهم هو مجلس تأسيسي منتخب كما هو الحال في تونس .
و إذا كانت ملاحظتهم على طريقة تشكيل اللجنة صائبة يتقاطع معهم فيها العديد من الفاعلين السياسيين وأساسا حزب العدالة والتنمية فإن الحل الذي يقترحونه ويتشبثون به ليس صوابا لأن ذلك يعني عدم شرعية النظام الملكي من جهة. ولأنهم يريدون من ورائه ملكا يسود ولا يحكم و هذا ما لا يتفق معه العديد من مكونات المشهد السياسي والثقافي المغربي من جهة ثانية. ولأن النظام قائم ولم تحدث ثورة لكي ينتخب مثل هذا المجلس من جهة ثالثة. ففي مصر التي اسقط الرئيس و النظام لم تنتخب مجلسا تأسيسيا بل تم تعين لجنة وضعت دستورا برئاسة المفكر طارق البشري.
والمبرر الثاني والأساس في نظري هو عدم التنصيص على مدنية / علمانية الدولة المغربية وعدم دسترة سمو المواثيق الدولية على المواثيق الوطنية. وهذا ليس خيار الشعب المغربي كما يحاولون تصويره حتى يكون هذا الخيار في مقابلة مع الخيار الملكي وإنما يتعلق الأمر بخيار يختلف مع رأي أهم مكونات المشهد السياسي المغربي من أحزاب سياسية وتوجهات إسلامية تنادي بمرجعية الدولة الإسلامية وبسمو القوانين الوطنية والتشريعات المستمدة من الدين الإسلامي السمح على القوانين الدولية التي تضعها القوى الرأسمالية والامبريالية.
إننا إذن لسنا أمام تدافع بين الشعب والنظام وإنما تدافع بين اليسار الجذري و هذه المكونات الأساس التي ضغطت وبقوة في اتجاه صيانة المرجعية الإسلامية في الدستور الجديد.
موقف جماعة العدل والإحسان
إذا كان الموقف من الدستور واضحا جدا وهو المقاطعة وعدم التصويت حتى بـ "لا" فإن الأسباب تبقى غامضة والغموض هنا مقصود. فالمتابع لشأن الجماعة يتساءل: هل تغير موقف الجماعة التاريخي من النظام الملكي وأصبحت تطالب بملكية برلمانية؟ فهذا لم يثبت رسميا في أوراق الجماعة حتى اللحظة. هل مبررات رفضها هي عدم انتخاب مجلس تأسيسي كما يطالب بذلك اليسار وبعض مكونات حركة 20 فبراير من اجل ملكية برلمانية ؟ فهذا لا ينسجم وموقف الجماعة الرافض للنظام الملكي من الأصل وبالتالي فأهداف الجماعة من مجلس تأسيسي لا يمكن أن تكون وضع دستور بسقف ملكية برلمانية وإنما وفي أحسن الأحوال إخضاع النظام برمته للانتخاب بتخيير المغاربة بين النظام الملكي أو النظام الجمهوري كما كانت تطالب بذلك نادية ياسين كريمة الشيخ عبد السلام ياسين.
وإذا كان الأمر كذلك فما هو موقف الجماعة من مطالب اليسار المنادية بعلمانية الدولة وسمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية وعلى التشريعات الإسلامية مثل الإرث والإعدام والتنصيص على الحرية الفردية ؟ ألا تعتبر هذه القضايا مفصلية بين اليسار وجماعة الشيخ عبد السلام ياسين آم ا ن الأهم هو تغيير النظام أولا ثم التطاحن حول هذه القضايا؟
نترك الإجابة على هذه الأسئلة للقارئ ونعود لنؤكد على أن الحقيقة التي يجب أن يعترف بها الرافضون للدستور وخصوصا اليسار الجذري والعدل والإحسان هو أننا في المغرب لسنا متفقين على مشروع مجتمعي في مستوى هوية الدولة والمرجعية الإسلامية والقضايا اللغوية وطبيعة العلاقة بين التشريعات الوطنية والإسلامية والمواثيق الدولية التي تصادم نصوصا صريحة في الشرع والثقافة المغربية كقضية المساواة المثلية والحريات الفردية وقضايا الأسرة والهوية وحقوق الإنسان.
وعليه فإن هذه القضايا تتطلب حوارا وطنيا علميا وهادفا بين مكونات المشهد السياسي المغربي أولا ثم باقي مكوناته الدعوية و الجمعوية وغيرها لنصل إلى إجماع وطني حول احترام ثوابت البلد ومرجعيته الدينية وهويته المتنوعة المنصهرة في الدين الإسلامي.
مصطفى هطي