"يتكون الوطن من الموتى الذين أسسوه، ومن الأحياء الذين يستمر بهم" رينان
كل الملكيات ترتهن لدينامية التغيير ضمن الاستمرارية، والأنظمة الملكية، خاصة العريقة منها، لها خصيصة تميزها عن غيرها من الأنظمة، وهي ثقل التقاليد الموروثة الذي يدفعها إلى الحفاظ على الأعراف التي انتقلت إليها عبر أجيال وعقود طويلة، في ذات الوقت تتجه نحو التغيير الذي تحمله عوائد الزمن المستقبلي لحفظ استقرارها وإدامة وجودها.. كل من يجلس على العرش تحكمه غريزة البقاء، فيفكر فيما سيورثه للملك القادم من سلالته دون القطع مع ما راكمته سنون الماضي..
وإذا كان حاضر الملكية بالمغرب قد صُنع عبر موروث السنين الماضية، فإن مستقبلها يُصنع الآن وهنا، قد لا يكون محمد السادس مهتماً بأن يخيب آمال الصحفي الفرنسي جان بييرتيكوا، لكن لديه هاجس لا يؤرق باقي الفاعلين في المشهد السياسي المغربي، اسمه حفظ مقاليد عرش امتد إليه من أسرة حكمت المغرب لستة قرون، ويهتم بما سيتركه لولي عهده، بعد عمر مديد، بشكل أفضل مما ورثه عن سابقه، ليكون خير خلف لخير سلف..
عقدة الملكيات هي مع التاريخ لا مع الجغرافيا، ألهذا يشكل التاريخ- بالإضافة إلى القانون-مادة أساسية لتربية الأمراء؟! الجمهوريات لا يؤرقها حساب التاريخ، لأن ليس لها ثقل إرث الماضي الذي قد يكبل حاضرها، لذلك كان بسمارك يقول: "إن الجغرافيا هي الحقيقة الوحيدة الثابتة في التاريخ"!
خارج أصولها الوطنية والشعبية، وامتدادها التاريخي الذي جعل منها ليس فقط معطى تاريخيا، بل كياناً روحيا يضم الأحياء والأموات، الذاكرة التاريخية المشتركة للمغاربة ورمز طموحات الإرادة الجماعية للأمة، تحولت الملكية ليس فقط إلى نمط للحكم، أو نظام سياسي يسهر على سلامة الدولة وحماية مصالح المجموعة الوطنية، بل إلى نسب روحي يجسد رمزية وحدة الوطن وكيان الأمة في سيرورة هوية ممتلئة وغير جامدة.
لذلك ليس غريبا على مفكر أرقه لغز التاريخ من حجم عبد الله العروي أن يقول إن حركة 20 فبراير مجرد أكذوبة وأن الملكية هي قائدة التغيير.. إن هذا القول يعتبر صادماً للعديد من اليساريين الذين تتلمذوا على يد العروي وآمنوا بأطروحاته والذين راهنوا على حركة شبابية انطلقت فورتها مع هبوب رياح الربيع العربي، خاصة وأن ارتدادات كثيرة عرفها المغرب على عهد ذات الملكية التي تقود اليوم مسلسل الإصلاح، فما حدث منذ شتنبر 2002 كان يسير في تجاه الارتداد إلى الماضي في أبشع صورة لخلق مجتمع الدولة لا دولة المجتمع!
لم تتسم الملكية في المغرب بذات العناد الذي ميز أنظمة أخرى في المنطقة العربية، ليس فقط بسبب غريزة البقاء التي تحكم الأنظمة الأميرية والسلطانية، ولكن لأن الأسرة العلوية في المغرب أسست عقداً اجتماعيا في وسط المجتمع، حتى أضحى المدافعون عن الملكية ممن لا يستفيدون بشكل مباشر من امتيازات النظام السياسي القائم، أقوى من المنتفعين من هذا النظام في المغرب، لذلك وحتى في اللحظات المفصلية التي لا يرغب فيها الملك، القادم إلى السلطة بحكم التقاليد الوراثية، في الاستمرار على العرش، ويبدو زاهداً في امتلاك القدرة أو الرغبة في السلطة، تهب فئات اجتماعية وطوائف دينية لإسناد السلطة السياسية كواجب وطني أو كأمر رباني، وعلينا أن نقرأ درس نزول الزاوية البوتشيشية إلى الشارع لحظة التصويت على الدستور، في مداها الأعمق، كدعم لمشروعية الملكية وكسند للعرش...
إن قوة الملكية في المغرب، هي أنها كانت دوماً في لحظات الرفاه تعمل على إرضاء القياد والجيوش والنخب المهيمنة وشيوخ القبائل الموالية والزوايا الداعمة، لكنها في اللحظات المفصلية تختار الانتماء إلى الشعب، من تجربة نفي محمد الخامس إلى خطاب 9 مارس.. وهذا ما قوى حصانة النظام السياسي الذي لا زال المغاربة يرون فيه النظام الأقل تكلفة، لذلك فإن أي انزياح عن هذا المسار الداعم للتغيير تكون فاتورته غالية.. ومن له أذنان للسمع فليسمع.