الفلسفة، كما نعرفها، عبارة عن تفكير وتساؤل. لا أكثر ولا أقل. الفيلسوف عندما يتساءل، لا يبحث عن إجابة قاطعة، فلا توجد هناك إجابة قاطعة. إنما يدعوك للتفكير واستخدام العقل.
هذه التساؤلات تساعدنا في إيجاد معنى لمفهومي الصح والخطأ، وتعمق فهمنا لطبيعة الحياة السليمة والجيدة، وتهدينا لما يجب فعله أو تجنبه في هذه الحياة المليئة بالأسرار.
في هذه الحياة، هل يوجد واجب أخلاقي علينا الإلتزام به؟ وهل هناك أخلاقيات مطلقة لا يمكن المساس بها؟ أم هي مجرد أشياء نسبية، تعتمد على العصر والمكان والثقافة وفهم الشخص نفسه؟ وهل هناك سبب ما، يدفعنا للتمسك بها والعض عليها بالنواجد؟
أهم أعمال أفلاطون، ومؤلفه الذي يعتبر من أفضل الروائع الأدبية العالمية، هو كتاب "الجمهورية". يبدأ في أوله بمناقشة موضوع أسماه "ديكايوسين". يترجم في معظم الحالات على أنه يعني "العدالة". لكن الترجمة الأقرب للصواب هي "الأخلاق". الأخلاق هنا بمعناها الأكثر شمولا واتساعا.
في أول فصل من كتاب جمهورية أفلاطون، يفاجئنا السفسطائي ثراسيماخوس بقوله إن الأخلاق ما هي إلا مجموعة قرارات وقيود، يفرضها أصحاب السلطة والقوة على شعوبهم البائسة.
هذه القرارات والقيود، لا تصب دائما في صالح الشعوب، لكنها بالتأكيد تكون في صالح الحاكم المفتري الظالم صاحب القوة المطلقة. عندما يطالبنا أولي الأمر والنهي بالحجاب والنقاب لنسائنا، ويصرون على تطبيق الحدود، ويأمروننا بطاعة الحاكم، والإلتزام بالأمانة والصدق، لا يكون ذلك لسواد عيون المواطنين، أو حبا في الفضيلة، ولكن لما فيه من مصلحة للذين يتربعون على عرش السلطة.
لكن العظيم سقراط يخبرنا، أثناء حواره مع ثراسيماخوس، بأن الأخلاق لا تصب بالضرورة في مصلحة الأقوى. فيصر ثراسيماخوس على رأيه، بأن التمسك بالأخلاق مصيبة، وليست من مصلحة الشخص بصفة عامة.
الرجل المرتشي يكسب أكثر من الرجل الأمين. النصاب والمزور يدفعان ضرائب أقل من الرجل الصادق. المنافق يبلغ أسمى المراكز والمناصب. التلميذ الغشاش ينجح بدون حق. التاجر يكسب البلايين من احتكار السلعة. السياسي، بإخفاء الحقائق، يفوز بالانتخابات، وبإظهارها، ينتهي مستقبله السياسي، إلخ. إننا دائما نجد الشخص غير المتمسك بالأخلاق، هو الفائز. يكسب أكثر من زميله المستمسك بها.
هنا، وجب على سقراط أن يثبت العكس. كان عليه إثبات أن التمسك بالأخلاق شيء مفيد مفعوله أكيد. وعدم التمسك بالأخلاق، أمر قميء رديء غير مربح. هذا عمل لا يقدر عليه سوى فيلسوف مثل سقراط. فتعالوا معي لكي نرى ماذا يقوله سقراط في هذا الموضوع.
في نهاية الفصل الأول من كتاب الجمهورية، لاحق سقراط ثراسيماخوس بالأسئلة، مما جعله يترك المشهد غاضبا. مشكلة الأخلاق، كما أثارها ثراسيماخوس، لم تغادر المشهد معه. لكنها بقيت وتفاقمت. الباب الثاني يبدأ بمناقشة ثلاثة أنواع من فعل الصح، أو فعل الخير. هي:
1- فعل الخير لذاته، مثل فعل أشياء تعطينا البهجة والمتعة.
2- فعل الخير لعواقبه أو تجنبا لضرر ما، مثل تناول الدواء.
3- فعل الخير لذاته وأيضا لعواقبه، مثل الحفاظ على الصحة.
يقول سقراط إن ما جاء بالبند الثالث السابق، هو كل ما يعنيه بالأخلاق. لكن معظم الناس تعتقد أن تعريف الأخلاق ينطبق على البند الثاني فقط، أي طلبا للخير أو تجنبا للضرر.
يشرح لنا جلوكون، أحد رفاق سقراط، فكرة الأخلاق عند العامة. يذكر لنا حكاية الخاتم السحري الذي يجعل الإنسان مخفيا عن الأنظار. فيقول بما معناه، إن من يمتلك الخاتم السحري، يستطيع أن يهرب من عاقبة فعله.
فمثلا، يستطيع حامل الخاتم السحري إغراء الملكة وقتل الملك والاستيلاء على الحكم. أي واحد منا سوف يفعل نفس الشيء، إذا أتيحت له الفرصة. العبيط فقط هو من يقول "لا" أمام هذه الفرصة. إذا لمنا من يفعل ذلك، فهذا لأننا نشعر بالغيرة، أو لأننا لا نريد أن نبدو أشرارا أمام الآخرين.
هنا يأتي رفيق آخر من رفاق سقراط، أديمانتوس، ليؤيد كلام جلوكون، ويقول بأن الأخلاق هي بالتأكيد البند الثاني. الناس تفعل الفعل الأخلاقي، لأنها تبغي الفائدة من ورائه.
تقوم بشعائر الأديان، لكي تدخل الجنة. تلبس النساء النقاب، ويرتدي الرجال الجلباب ويطلقون اللحية، لكي يكسبوا احترام الناس وثقتهم. الأخلاق هنا سلع نقايضها بشيء آخر.
هذا الرأي تبناه لاحقا ميكافيللي. فهو يقول بصراحة ووضوح في كتابه "الأمير"، إنه ليس من الضروري للأمير أن يكون رحيما أو مؤمنا أو أمينا أو إنسانيا أو أخلاقيا في أفعاله، لكن من الضروري أن يظهر أمام الرعية على أنه يتسم ويتحلى بكل هذه الصفات. المهم الفائدة وليس الفعل نفسه.
إلى هنا وسقراط يبدو لنا أنه يواجه مدافع ودانات من العيار الثقيل. فماذا يفعل وكيف يجيب؟ لقد فعل ما قد يفعله الكثير منا في مثل هذا الموقف. لقد قام بتغيير الموضوع، أو هكذا يبدو لنا.
هنا يعترف سقراط أن المشكلة أصبحت معقدة، والتفاصيل أصبحت كثيرة متشعبة غير واضحة، تحتاج معها إلى مجهر أو عدسة مكبرة. ثم يقدم لنا نظرية تصاحبنا في معظم كتاب "الجمهورية".
نظرية سقراط تنقسم إلى قسمين. الأول، يقول بأن مشكلة الأخلاق يمكن أن تحل عندما نفهم طبيعة النفس البشرية. الثاني، يقول بأن فهم طبيعة النفس البشرية تكون ممكنة، عندما نقوم بدراسة المدينة أو المجتمع.
البحث عن المدينة الفاضلة يقودنا إلى فهم النفس الفاضلة أو المثالية. من هنا يمكننا تعريف الأخلاق، وماذا نعني بفعل الخير، وبذلك يمكننا الإجابة على السؤال: لماذا يجب علينا أن نتمسك بالأخلاق، دون أن نستخدمها كأداة لتحقيق مصلحتنا الشخصية؟
يقول أفلاطون إن سقراط قد توصل إلى النتيجة الآتية: المدينة الفاضلة تتكون من ثلاث طبقات متباينة. الطبقة الأولى، هي طبقة الحكام الحكماء الدارسين للفلسفة. وهي طبقة تماثل فضيلة الحكمة عند الفرد.
الطبقة الثانية، هي طبقة الجند أو الحراس، التي تحمي المدينة في الداخل والخارج. هذه الطبقة يجب أن تكون على علم بشيء من الفلسفة، حتى تستطيع أن تفرق بين العدو والصديق. من يثبت منهم أنه قد أتقن الفلسفة، يستطيع أن يرتقي إلى طبقة الحكام. وهي طبقة تشبه فضيلة الشجاعة عند الفرد.
أخيرا، طبقة الحرفيين والصناع والزراع. وهي تتكون من غالبية المجتمع، لكنها غير قادرة على الحكم، لأنها لا تعلم شيئا عن الفلسفة. يجب على هذه الطبقة أن تمتثل للقوانين التي تُفرض عليها من الطبقة الحاكمة. امتثال طبقة الحرفيين هذه، تمثل فضيلة اعتدال الشهوات عند الفرد.
بما أن المدينة أو المجتمع، صورة مكبرة للنفس البشرية، كما يقول سقراط، لذلك يمكننا القول بأن النفس البشرية تتكون من ثلاثة أشياء أيضا. العقل والروح والشهوة.
العقل دائما نجده معارضا للشهوة، التي تعتبر الجانب الحيواني في النفس. هي تسمى "الهي" عند فرويد. فرويد قسم النفس أيضا إلى ثلاثة أقسام: "الأنا الأعظم"، "الأنا"، "الهي".
هذا ليس بالمستغرب، إذا علمنا أن فرويد كان قد تأثر تأثرا بالغا بكتاب "الجمهورية" لأفلاطون. العجيب أنه قد جاء بكتاب "الجمهورية" بأن الرغبات المكبوته تظهر في صورة أحلام، قال سقراط هذا قبل فرويد بما يزيد على ألفي عام. فهل هناك جديد تحت الشمس؟
يقول الفيلسوف العظيم البريطاني ألفريد نورث وايتهد: "تاريخ الفلسفة، ماهو إلا تعليق وشرح لكتاب جمهورية أفلاطون".
الأعجب، أن كتاب جمهورية أفلاطون كان يدرس هو وفلسفة أرسطو بالمدارس والجامعات المصرية، أيام عصر النهضة وحكم البطالمة الذي استمر أكثر من 300 سنة قبل الميلاد، وقبل دخول المسيحية والإسلام مصر.
كنت أتمنى أن يكون أولو الأمر فينا وأعضاء مجلس الشعب واللجنة المشكلة لوضع الدستور المصري الجديد على علم بأصول الفلسفة أو يكونوا، على الأقل، قد قرأوا وفهموا كتاب "جمهورية أفلاطون".
يقول سقراط إنه إذا تغلبت الشهوة على الروح، أصبح الإنسان شهواني الطبع. وإذا تغلب العقل على الروح، أصبح الإنسان عقلانيا. فضيلة العقل هي الحكمة، وفضيلة النفس هي الشجاعة، وفضيلة الشهوة هي الاعتدال.
إذا تحكم العقل في جميع مكونات النفس الثلاثة، تكون النتيجة هي الأخلاق والكمال والفضيلة. عندها يصبح واضحا للفرد لماذا يجب أن يسلك طريق الأخلاق، ولماذا عليه أن يلتزم بها.
لماذا يجب علينا أن نفعل الفعل الأخلاقي؟ لأن العكس سوف يؤدي إلى الفوضى والخلط. العكس سوف يخلق صراعا بين العقل والشهوة داخل النفس، وهذا لا يستقيم مع السلام الداخلي للفرد.
نبل الإنسان وفضيلته، تتطلب السلام الداخلي، وانتصار العقل على الشهوة، وعلى الجزء الحيواني من النفس. وتتطلب أن يأخذ الإنسان في اعتباره مصالح الآخرين، وليس مصالحه الشخصية فقط.
هنا يقول أفلاطون على لسان جلوكون، إن الفضيلة للنفس، هي مثل الصحة والجمال للبدن. العكس يعني المرض والقبح والضعف.
لنعود الآن إلى تساؤل ثراسيماخوس. هل من الأفضل أن لا نتمسك بالأخلاق؟ وهل الأخلاق للنفس فعلا، مثل الصحة للبدن؟ لكي نجاوب على هذا السؤال، سوف نرجع إلى موضوع الفرد والمدينة مرة أخرى.
بالنسبة للفرد والمدينة، العدالة والأخلاق تنبع من مبادئ عقلانية لا دينية. هذه هي أصول الأخلاق عند الغرب حاليا، التي صاغها فلاسفة التنوير. المساواة وحقوق المرأة وحقوق الإنسان وتحرير العبيد، جاءت كلها لأسباب عقلانية، لأن الغرب وجد أنها منطقية تساعد على سلام المجتمع واستقراره.
لو اعتمدنا، بالنسبة للأخلاق، على التعاليم الدينية فقط، فلن تتم المساواة بين البشر، ولن تأخذ المرأة باقي حقوقها، ولن يتحرر العبيد. الخليفة العباسي، المتوكل، كانت لديه 3000 جارية، وطأهن جميعا.
الفرد يتمسك بالأخلاق عندما يتفهم المبادئ العقلانية التي تؤيدها. هذا الفهم، يجعله يسيطر على شهواته وغرائزه البهيمية.
التمسك بالأخلاق بسبب التعاليم الدينية فقط، والخوف من عذاب جهنم، والطمع في الجنة والحور العين، دون أسباب عقلانية، قد يجعل الإنسان يعيد تفسير وتأويل التعاليم الدينية بما يوافق مصلحته الشخصية أو مصلحة الحاكم.
إصرار الرجل على أنه أفضل من المرأة، ومن ثم، له كل الحق في الزواج عليها وطلاقها وتشريدها هي وعيالها، وسجنها وطمس معالمها بالنقاب. موقف الإخوان والسلفيين من قضايا الدستور وحقوق الأقليات والمرأة، هو خير دليل على ذلك.
كل هذا يمكن فهمه بالنسبة لسلوك الفرد، لكنه شيء محير بالنسبة للمدينة. معظم الناس في مدينة أفلاطون بطبيعتهم أشرار. سواء لبسوا الجلباب القصير وأطالوا اللحية وحفوا الشارب، أو لم يفعلوا ذلك. هم جميعا، لا يستطيعون بمفردهم اكتشاف الأسباب العقلانية، التي تدعوهم للتمسك بالأخلاق الحميدة.
الأخلاق يجب أن تكون موضوعة على أسس عقلانية لا دينية. فهي ليس لها قوة في حد ذاتها، تفرضها على الجميع. لذلك يجب أن تُفرض الأخلاق والعدل في المدينة الفاضلة على الجميع بسلطة علوية.
يقول سقراط إن التمسك بالأخلاق هو من صميم مصلحة الفرد، حتى وإن لم يفهم معظم الأفراد ذلك. إذا رأينا أحدا يفعل فعلا لا أخلاقيا، فهو يفعل ذلك لأنه لا يعرف مصلحته الحقيقية.
يقول سقراط، الأخلاق والفضيلة عبارة عن معرفة. إذا عرفت معنى الخير، سوف تفعل الخير. الناس تفعل الشر لأنها لا تعرف. الناس لا تفعل الشر باختيارها. فعل الشر هو الجهل بعينه. الأخلاق هنا ليست لها علاقة بالجنة والحور عين، ولا بالنار والسعير. إنما عبارة عن معرفة وجهل فقط.
الناس تسرق وتقتل وتبحث عن الشهرة والمجد، لأنها تعتقد أن هذا هو الطريق للسعادة. لكنهم لا يعرفون معنى السعادة. ولا يعرفون أنفسهم وما يسعدهم. لذلك، كما يقول سقراط، من المهم أن تعرف نفسك. فالحياة غير المفهومة والخالية من البحث والتساؤل لا تستحق أن تعاش.
وأخيرا، هل قرأتم أو سمعتم تعبيرا أجمل أو أروع من تعبير: "الفضيلة للنفس مثل الجمال للبدن". هذا التعبير جاء في جمهورية أفلاطون منذ أكثر من 2300 سنة. قبل المسيحية وقبل الإسلام.
محمد زكريا توفيق
zakariael@att.net