|
|
|
|
|
أضيف في 15 أبريل 2012 الساعة 35 : 22
الحسين بوخرطة
أخيرا يلتقي العروي والمرحوم الجابري في مسألة الخصوصية المغربية... والنهضة القطرية وتقوية الدولة الوطنية كأولوية
لا أحد يجادل أن حلم بناء مجموعة اقتصادية من المحيط إلى الخليج لم يغادر دائرة النقاش داخل مجتمعات المنطقة. فبالرغم من الاختلاف في المناهج المعتمدة والاستنتاجات الفكرية، توج النقاش والحوار الفكري ما بين المشرق والمغرب بانبثاق مشاريع فكرية بالغة الأهمية في مجالات التراث والحداثة ارتباطا بمسألة الهويات القطرية والهوية الجهوية الجامعة. وقد برز في هذا المجال عدة مفكرين من العيار الثقيل أمثال محمد عابد الجابري، وأركون، وبرهان غليون، وعبد الله العروي، وحسن حنفي، ونصر حامد أبو زيد، إلخ. لقد تناول المفكرون أهم القضايا المتعلقة ب "التراث" و"التجديد" و"الحداثة" و"التقليد"، و"مفهوم الدولة"، ومفهوم "الحرية" و"الوحدة الجهوية" وخلص الحراك الفكري في المنطقة إلى إثبات كون التراثي ليس بالضرورة مقلدا، وأن الحداثة في نفس الوقت لا يمكن أن يكون مصدرها الوحيد هو الفكر الغربي، وأن التجديد الثقافي في المجتمعات العربية والمغاربية يبقى إلى حد بعيد مرتبط بمستوى المجهود الفكري في مجال قراءة التراث وتحديثه، وترسيخه مجتمعيا على أساس العقلانية، وبالتالي تحويل المشروع الحداثي القطري والجهوي إلى مشروع قابل للتفعيل بهويات قطرية وبمقومات جامعة مرتبطة بالتاريخ الحضاري والسياسي للأوطان والتفاعلات الدائمة التي ميزت العلاقات ما بين شعوب المنطقة، وبين هذه الشعوب والآخر.
في هذا السياق، كانت "الخرجة" الإعلامية الأخيرة للمفكر عبد الله العروي ذات رمزية فكرية وسياسية كبيرة. من خلال الحوار الذي أجرته معه مجلة "زمان"، تحدث عن قضايا راهنة أثارنا فيها التقاءه مع المفكر المرحوم محمد عابد الجابري في مسألتين أساسيتين هما الخصوصية المغربية والنهضة القطرية وتقوية الدولة الوطنية كأولوية.
النهضة القطرية وتقوية الدولة الوطنية كأولوية
بعدما كتب العروي في الستينات كتابا حول "المغرب العربي"، ودفاعه على وحدة المغرب الكبير، يعود اليوم للدفاع على ضرورة تقوية الدولة القطرية. وبذلك يلتقي مع المرحوم محمد عابد الجابري في نفس الطرح تقريبا. في هذا الشأن، قال العروي في حواره الأخير مع مجلة "زمان": " لو طلب مني اليوم كتابة تاريخ المغرب سأرفض، بل سأتحدث عن المغرب وحده، تاركا للآخرين أن يتحدثوا عن بلدانهم... الدعوات لإقامة مغرب عربي كبير متحد لا تثبت وجود مغرب عربي في الواقع... هناك فقط تجانس نخبة معينة في المنطقة ولا يتعلق الأمر بتجانس الشعوب". وأضاف : " أؤكد أن الإطار الذي كتبت فيه كتابي عن المغرب العربي، سنة 1969، كان مختلفا تماما عما هو عليه اليوم. الدول الوطنية لم تكن مهيكلة بشكل قوي". وأضاف: " بكل صدق، المغرب الكبير هو إمكانية بعيدة... لا أريد أن أعود إلى حلول لا أعتبرها فحسب متجاوزة، بل كذلك غير قابلة التطبيق".
بالنسبة للجابري، بعد تطرقه لتحديد المفاهيم الأساسية التي أفرزها مشروع الوحدة على أساس "الإقليم القاعدة"، واستحضاره للتقابلات الهوياتية الإيديولوجية التي ميزت تاريخ المنطقة (تقابل الهويات الثقافية المختلفة، وتقابل المرجعيتين التراثية والنهضوية، وتقابل الأنا والآخر،...)، اعتبر، عكس ما روجه رواد الإيديولوجية القومية، أن الدولة القطرية هي أساس الوحدة العربية. بالنسبة له، كل الأدبيات الوحدوية وكل النضالات والتضحيات التي بذلت من أجل الوحدة خلال المائة سنة الماضية، كل ذلك قد انتهى، لا إلى تحقيق الوحدة العربية، بل إلى تحقيق الشرط الموضوعي لإمكانية قيام وحدة عربية ما. هذا الشرط الموضوعي هو وجود دول قطرية مستقلة على أرض الواقع العربي، ذلك لأنه كان يستحيل عمليا قيام وحدة عربية أثناء الحكم العثماني وخلال الفترة الاستعمارية. وأكد الجابري في كتاباته استحالة الانتقال مباشرة من الاستعمار إلى الوحدة في المنطقة. وهنا قال بالحرف: "كان يستحيل عمليا قيام وحدة بين دول حديثة العهد بالاستقلال، دول كان من المحتم عليها أن تنصرف إلى بناء كيانها وتحقيق ذاتها". وأضاف: "الشرط الموضوعي لتحقيق الوحدة العربية هو قيام الدول القطرية العربية أولا ودخولها في مرحلة "الشبع" من الذات ثانيا. ونحن نقصد ب"الشبع من الذات" الحاجة إلى تأكيد الذات والدخول في "التاريخ" من جهة، والشعور بالقصور الذاتي والعجز التاريخي من جهة أخرى".
بالنسبة للجابري، الإيديولوجية القومية قد انتهت نتيجة لما سببته من جمود في العلاقات بين دول المنطقة. وهنا يقول الجابري: "إن الإيديولوجيا القومية قد انتهت مهمتها بقيام نقيضها الموضوعي الذي هو الدولة القطرية العربية بوصفها حقيقة دولية وعربية، اجتماعية واقتصادية ونفسية لم يعد من الممكن القفز عليها حتى على صعيد الحلم". وأضاف: "وإذن فكل تفكير في الوحدة العربية، اليوم أو غدا، لا ينطلق من واقع الدولة القطرية العربية الراهنة، هو تفكير ينتمي إلى مرحلة مضت وانتهت، تفكير لم تعد له، إطلاقا، أية وظيفة ولا أية مهمة".
وباستحضار الخيارات الأساسية بقضاياها الثلاث (قضية الديمقراطية، قضية الزعامة و"الإقليم القاعدة"، قضية الوحدة)، اعتبر الجابري العمل المشترك من أجل مستقبل الشعوب في المنطقة يتطلب إعادة التفكير في بناء وحدة جديدة بمنطلقات وأسس جديدة تنبني على ضرورة البدء بدمقرطة الفكرة القومية، وتجاوز مقولة "الإقليم القاعدة" لعدم علميتها، واعتبار الوحدة أشكال ومستويات. فالطريق إلى الوحدة العربية المنشودة بالنسبة للجابري يجب أن تنطلق من الاعتراف لجميع الدول العربية والمغاربية بحق متساو، وبحقها في اختيار عدم الانخراط فيها (الوحدة يجب أن تكون عقدا مبنيا على الاختيار الديمقراطي الحر تعبر عنه أنظمة قطرية ديمقراطية). بالنسبة لهذا المفكر فكرة "الإقليم القاعدة" هي من الأفكار والمفاهيم والشعارات التي يجب أن يعاد فيها النظر وبكيفية جذرية إذا نحن أردنا فعلا الاتجاه، اتجاها عمليا وسليما، نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي بالصورة التي تجعله مواكبا للتطورات التي حصلت والتي ستحصل ... إن القول ب"الإقليم القاعدة"، معناه تصور بناء الوحدة على أساس أن قطرا عربيا واحدا هو المركز والأقطار الأخرى أطراف وتوابع، معناه تقديم الوحدة العربية للأنظمة والشعوب على أنها تعني من الناحية العلمية إسناد الرئاسة والزعامة والهيمنة إلى قطر معين منذ البداية، أي دون سابق تجربة ولا سابق انتخاب ولا سابق تراض... إن ربط مشروع تاريخي ضروري لتقدم الأقطار العربية كمشروع الوحدة بظهور "قائد ملهم" أو "زعيم بطل" معناه نقل فكرة الوحدة من مجال الواقع إلى مجال الميثولوجيا، ومجال الأساطير... إن الحلم ب"الوحدة" التي تتمحور حول "الإقليم القاعدة" ويقودها "الزعيم" حلم ميثولوجي، طوباوي... يجب أن ننظر إلى "الوحدة" لا كهدف في ذاته، بل من أجل ما ستشبعه من حاجات وتحققه من منافع وتستجيب له من ضرورات".
وبخصوص استشراف المستقبل، اعتبر العروي في نفس الحوار (مع مجلة زمان) أن مشروع وحدة المغرب الكبير لا يمكن أن يكون أساسه إلا اقتصاديا. وفي هذه النقطة أكد أن مشروع الوحدة بالنسبة للمغرب الكبير يجب أن يستند على الاقتصاد من خلال البدء بتسوية المشاكل التجارية والاقتصادية، والعمل عن تنقل فعلي للأموال (بدون فتح المجال لحرية تنقل الأشخاص)، والتفكير في خلق منظمات دولتية مشتركة مثل غرف التجارة والفلاحة والصناعة. وأضاف: "ليس القبيلة من يصنع، ايجابيا، التاريخ، لكن يمكن للقبيلة أن تصنع التاريخ سلبيا".
بنفس الرؤية أكد الجابري فيما قبل أن الواقع العربي الراهن لا يتحمل شعار "الوحدة العربية الاندماجية الشاملة"، ولا يقدر على حمله. إن الممكن اليوم هو أشكال من الوحدة يتداخل فيها، ويتكامل، العمل الإقليمي والعمل القومي. إن العالم العربي اليوم أربع مجموعات متميزة مؤهلة لنوع من الوحدة أو الإتحاد على أساس التعاون الاقتصادي: مجموعة الجزيرة والخليج واليمن، ومجموعة الهلال الخصيب (العراق وسوريا والأردن وفلسطين)، ومجموعة وادي النيل والقرن الإفريقي (مصر والسودان والصومال وجيبوتي) ومجموعة بلدان المغرب العربي الخمسة. والعمل الوحدوي داخل هذه المجموعات لا يتعارض مع العمل الوحدوي على الصعيد العربي العام، سواء في صورة تعاون ثنائي أو في صورة تنسيق داخل جامعة الدول العربية... لن تتحقق الوحدة كاملة مرة واحدة، بل لا بد من أن تمر عبر مراحل وأشكال وصيغ. وأضاف في هذا السياق: " إن الأقطار العربية لم تعد قادرة اليوم، وربما ستكون أكثر عجزا غدا، عن توفير الضروري من الأمن، والضروري من الغذاء، والضروري من الشغل، والضروري من التعليم والصحة،...إلخ، فضلا عن التقدم نحو الأحسن، إلا إذا انخرطت ضمن مجموعة متكاملة متحدة، وبالتالي فالواقع اليومي، الواقع الحياتي، هو الذي يضغط اليوم من أجل الاتجاه نحو الوحدة، وليس الحلم ولا مجرد "الأمل المنشود". وإذا فالتفكير في الوحدة اليوم يجب أن يتجه اتجاها عمليا، الاتجاه الذي يبدأ بتحقيق الممكن القريب، ويجعل منه مرحلة من مراحل الطريق نحو الممكن البعيد".
الخصوصية المغربية
بالنسبة لهذه النقطة كذلك، يعود العروي ليلتقي مع المرحوم الجابري بشأن الخصوصية المغربية في المنطقة العربية والمغاربية. وفي هذا الشأن قال في الحوار السالف الذكر: "كل مرة أجدني مندهشا بسرعة اتخاذ القرارات في المغرب...كل بلد في المغرب الكبير عليه أن يلتزم بجدليته الخاصة...بالمغرب الحالي، السلطة الملكية لها دور ضامن للاستقرار، خصوصا أنها تسمح بتفريق الدين عن السياسي". وأضاف في حديثه على مستقبل البلاد: "دور الملكية هو حماية الحداثة ضد القوى التقليدية والمحافظة... على الملك أن يهتم بالأسئلة الدينية، لتفادي استئثار شخص آخر بها، ثم تحريف اللعبة السياسية... الملك هو المؤهل الوحيد لحل المسائل الدينية". كما أكد أن مشروع الجهوية بالنسبة لبلادنا ستعزز خصوصيتها. وهنا قال: "بالسياسة الجديدة القائمة على الجهوية، وخصوصا الطريقة التي تفسر بها من طرف الهيئات الدولية تغير المعطى حيث أصبح الأمر يتعلق اليوم بالدولة المغربية والمجموعات السكانية المحلية، وهذا مكتسب".
بالنسبة للجابري، كانت تنبؤاته المبكرة ذات مصداقية فكرية كبيرة. إن مداخلاته في الحوار بين المشرق والمغرب أنصفهما التاريخ. لقد حرص باستمرار على إبراز أهمية الحوار في إذكاء الوعي المعرفي توطئة للوعي السياسي، ودافع في نفس الوقت على تميز النتاج الفكري المغربي بخصوصيته العقلانية المتجدرة في التاريخ والتراث. لقد أكد الجابري في كتاباته دائما على أهمية وتأثير الخصوصية المغربية العقلانية على مجريات الأحداث في المنطقة، خصوصية، بمقومات سياسية تحررية تقدمية وبتراث فكري تاريخي عقلاني أسس ركائزه الأولى رواد الفكر أمثال ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، بإمكانها أن تمكن مغرب اليوم أن يعيش تجربة تاريخية استثنائية في تاريخ الشعوب العربية والمغاربية.
إن استحضاره لتوجس النخب المثقفة بمشروعي "الاتحاد المغاربي" و"مجلس التعاون الخليجي"،أكد أن بلورة مفهوم مغاربي جديد لا يمكن أن يكون مبنيا ّإلا على التعاون والتضامن والتنسيق والاعتراف بالخصوصيات القطرية والابتعاد عن التصور"اليوتوبي" الطامح لتحقيق الوحدة الشاملة. واقترح مبكرا في هذا الشأن صيغة التوحد الفيدرالي أو الكونفيدرالي بدل الوحدة القومية.
خاتمة
لقد تأكد اليوم أن الخصوصية السياسية المغربية هي في نفس الوقت خصوصية فكرية روادها عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وآخرون. لقد توج المجهود العلمي للمفكرين المغاربة بانبثاق مشاريع فكرية عديدة ومتنوعة شكلت امتدادا فكريا تاريخيا رسم معالمه الأولى مفكرون قدامى أمثال ابن رشد، وابن خلدون، والشاطبي، والفرابي، وابن سينا،...، وساهم في تطويرها مفكرون جدد أمثال محمد عزيز لحبابي، والطيب تيزيني، وعبد السلام بن عبد العالي، ومحمد سبيلا، ومحمد المصباحي، وإدريس كثير، وعز الدين الخطابي، وعبد العزيز بومسهولي، وعبد الصمد الكباص، وحسن أوزال، وعابد الإله بلقزيز، ومحمد وقيدي،....إلخ. وتجدر الإشارة هنا أن المشروع الفكري النهضوي الذي أنجزه المرحوم محمد عابد الجابري، والذي كان آخر إبداعاته "فهم القرآن الكريم: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول" بأجزائه الأربعة، وما أثاره من نقاشات وجدالات غنية وطنيا وإقليميا وجهويا ودوليا، يعد اليوم أرضية فكرية غنية قد تساهم في تقوية الخصوصية المغربية لتكون قاطرة للعمل الوحدوي التنموي مغاربيا وعربيا. وما ورد في حوار العروي مع مجلة "زمان"، بعد كتاباته الغنية العديدة التي أغنت المكتبة المغربية، يؤكد اليوم مدى قوة الرؤية الاستشرافية عند المفكرين المغاربة سواء منها المتعلقة بالشأن الوطني أو الإقليمي أو الجهوي أو الدولي.
|
|
2997 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|