توفيق بوعشرين
في السياسة لا تخسر الأحزاب المعركة بالضربة القاضية.. تخسر في الغالب بالنقط، ويُسحب البساط من تحت أرجلها بالتدريج نقطة نقطة. كذلك وقع لليسار في المغرب. الاتحاد الاشتراكي خرج من بيت المعارضة قبل 14 سنة، ولم يعد إليه إلا مؤخرا مثخنا بالجراح، يجر خيبات فشل تجربة التناوب التي وضع كل بيضه في سلتها. التقدم والاشتراكية، وبعد عقود من «مغازلة السلطة»، طلب اللجوء السياسي عند حزب العدالة والتنمية الذي أكرم وفادته، وأعطاه أربع وزارات لم يكن يحلم بها، والنتيجة أنه صار الآن حزبا يمثل المساحات القليلة غير الملتحية في حكومة بنكيران. حزب اليسار الاشتراكي الموحد يبدو كنبتة حائطية معلقة في الهواء. خطابه السياسي واضح، ومطالبه الديمقراطية منطقية، لكنه حزب بلا جذور اجتماعية ولا قواعد تنظيمية. باقي «أطياف اليسار» تعبيرات رمزية تذكر بالنوستالجيا الحمراء، لكن الناس لا يرون الآن سوى اللون الأخضر، فالخطاب الإسلامي والأصولي والسلفي والصوفي هو المهيمن على المشهد...
قلعة اليسار كلها زلزلت في نهاية الثمانينيات في أوربا وآسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، لكن أحزابا يسارية كثيرة استوعبت الصدمة، وقامت بنقد ذاتي، وصقلت هوية سياسية وإيديولوجية جديدة مكنتها من استعادة عافيتها، والرجوع إلى السلطة في أكثر من بلد في الأركان الأربعة للعالم، خاصة وأن تناقضات الرأسمالية وأزماتها الاقتصادية والأخلاقية لم تترك مجالا للحديث عن نهاية التاريخ، وانتصار اقتصاد السوق وسياسة السوق وأخلاق السوق على ما دونها.
في بلادنا، لم ينجح اليسار في اجتياز امتحان الجزرة، على عكس امتحان العصا. اليسار قاوم السجون والمنافي والمعتقلات والاغتيالات والتعذيب والتشريد، لكنه لم يقاوم جاذبية الكراسي، وأبهة السلطة، وبريق المال، وأضواء الشهرة، ونعيم الجاه، ومتعة القرب من مصدر القرار... حزب عبد الرحيم بوعبيد، الذي استغرق بناؤه أكثر من 40 سنة، تداعى بنيانه في أربع سنوات هي عمر تجربة التناوب الفاشلة. وعوض أن يرجع الحزب إلى الوراء ويقيم التجربة، ويرسم استراتيجية نضال ديمقراطي جديدة، ارتمى في حضن حكومة جطو بدعوى استكمال بناء الأوراش، رغم أن الحكومة زاغت عن المنهجية الديمقراطية. ثم لما حصد الحزب خيبات انتخابية سنة 2007، أعاد نفس الخطأ بدخول حكومة عباس التي كانت أوهن من بيت العنكبوت، وهذه المرة بمبرر التشبث بالكتلة الديمقراطية، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الكتلة ماتت منذ زمن، وتحللت جثتها لأن أصحابها لم تكن لديهم الشجاعة لدفنها...
الآن الحزب في المعارضة، وهو يبحث عن طريق للخروج من النفق، لكن تيارات الجمود، ووجوه البازار السياسي التي اعتادت استثمار الحزب في لعبة البحث عن المنصب والمقعد والكرسي، مازالت لم ترفع الراية البيضاء، ولم يعطف قلبها على حزب يحتضر، وترى أنه مازال يصلح لاستعماله كرافعة للرجوع إلى الحكومة عن طريق توظيف الأعيان في الانتخابات عوض المناضلين، والاستعانة بالسلطة عوض الرجوع إلى التصالح مع الطبقة الوسطى التي عاقبت الحزب عن طريق التصويت للعدالة والتنمية...
حزب الوردة بحاجة إلى وجوه جديدة وإلى تعاقد جديد مع معسكره الطبيعي.. معسكر الحداثة والديمقراطية والانفتاح، فليس من مصلحة أحد أن تُهزم قيم اليسار في مجتمع مثل مجتمعنا مازال بحاجة إلى جرعات كبيرة من صراع الأفكار والمشاريع المجتمعية.