ذ. الكبير الداديسي.
ظل الطوارق أو أمازيغ الصحراء شعبا مسالما حرا يرتع في الصحراء الكبرى يهتدي بالنجوم ويتداوى بالأعشاب البرية، يعيش على حليب النوق هائما بين مالي وليبيا والنيجر والجزائر وبوركينافاسو .. وكانت تحركاته منذ دحر الاستعمار خجولة لأنه كان يفتقر للاستقرار والمال والسلاح . ومعظم مطالبهم كانت اجتماعية أو ثقافية ... لكن تدخل الناتو في ليبيا وإسقاط نظام القذافي قدَّم للطوارق الهدية التي لم يكونوا يحلمون بها أبدا ،فبعد أن تكالبت القوى الغربية على" النظام الجماهيري " وبعد أن تنّــكر "بني يعرب " لملك ملوك إفريقيا وعميد حكام العرب لم يجد القدافي أمامه سوى الطوارق الذين أمدهم بالسلاح والمال والسيارات الرباعية الدفع وأغراهم بأمواله لحمايته من راجمات الناتو ومن شعبه الثائر، دون أن يدري أنه سيشعل المنطقة بنار قد يتطلب إخمادها سنينا ، وحتى بعد رحيله ستظل أسلحة القذافي - الذي طالما ساند بها حركات التمرد الأفريقية في تشاد وأنغولا وغينيا بيساو وإريتريا وموزمبيق وناميبيا وزيمبابو والبوليزاريو - مصدر إزعاج للذين كانوا جيرانه .
باندلاع ثورة الطوارق ، وبإعلان تأسيس دولة أزواد يوم 6 أبريل 2012، و وبعد انقلاب العسكر على السلطة في مالي يكتمل اشتعال كل الحدود الجزائرية : فحدودها مع المغرب متوترة بسبب البوليزاريو ، وحدودها في الشرق ملتهبة بسبب ثورتي ليبيا وتونس ، واليوم يكتمل الطوق بثورة الطوارق لِتُقفل في وجهها كل المنافذ سوى منفذ البحر ، وتوضع الجزائر في موضع لا تحسد عليه ، موضع قد يربك كل أوراقها في المنطقة ، ويجعلها تتعامل بمكيالين ، فإذا كانت استراتيجيتها هي مساندة الشعوب في تقرير مصيرها كما تدعي ـ وهي بلاد المليون شهيد– فإن العزف على هذه النغمة بات مكشوفا بعد وقوفها مع القذافي ضد شعبه الثائر ..
إن ثورة الطوارق على حكومة مالي وإعلان تأسيس دولة أزواد من جانب واحد وضع الجزائر اليوم بين مفترق الطرق : فإما أن تسبح ضد التيار من جديد وتغني وحيدة خارج السرب العالمي وتعلن مساندتها للطوارق وتساند الحركة الوطنية لتحرير أزواد الذين قد يهددون وحدتها الترابية بعدما أصبح شعارهم هو تحرير بلاد الأزواد وغدوا يتطلعون لتأسيس دولة خاصة بهم وهم المنتشون بانتصاراتهم وتحريرهم لمدن في شمال مالي كما تساند كل حركات التحرر والبوليزاريو خير نموذج حتى تبدو الجزائر منسجمة مع مبدأ تقرير المصير الذي تتشدق به كل حين... أو تعلن أنها مع وحدة الدول وترفض انفصال الطوارق عن مالي .. وتكون هنا مجبرة على إعلان تنكرها للبوليزاريو وتحفظ ماء وجهها وتبدو منسجمة مع نفسها : فلا يمكن أن تكون الجزائر مع الانفصال في الغرب ومع الوحدة في الشرق وإلا ستكون كسربروس الوحش المتعدد الرؤوس... أو كالأم التي تميز بين أبنائها من خلال التمييز بين أبناء ولاية بشار المدللين الذين يساندون إخوانهم من أبناء الرقيبات في" الصحراء الغربية " ودعم "حركة تحرير واد الذهاب و الساقية الحمراء.. وبين أبنائها المغضوب عليهم من سكان تمنراست المتعاطفين مع إخوانهم الطوارق في مالي ورفض الاعتراف بالحركة الوطنية تحرير أزواد..
إن الجزائر ولكسب ود الطوارق ظلت تتجنب إجراء انتخابات لممثليهم في مجلس الشعب: فإذا كان ممثلو الأمة الجزائرية ينتخبون ولهم وظائف محددة فإن النائب الممثل للطوارق في مجلس الشعب لا ينتخب ، وإنما يعين وتعطى له صلاحية الاتصال المباشر برئاسة الجمهورية وقد تصل صلاحيته إلى إمكانية تحويل الوالي "إذا لم يتماشى مع خصوصية المنطقة " .. لكن الظروف اليوم تغيرت فالطوارق الذين كانوا مجرد رعاة جِمال سُدَّج ملثمون أصبحوا بأسلحة القدافي محاربين أشاوس استسلمت أمام جبروتهم السلطات المالية المدنية والعسكرية وغدت مدن شمال مالي تتهاوى أمامهم تباعا وقد يطمعون في تجاوز تمبوكتو نحو بماكو ...
فهل تتعظ الجزائر وتستفيد من تحرك الطوارق بعدما أصبحت تشرب من مثل كأس البوليزاريو الذي ظل يشرب منه المغرب أزيد من 35 سنة لتعمل على حل مشكلتها مع المغرب ؟؟ خاصة وأن حدودها مع جيرانها أصبحت مصدر خطر عليها بعدما كانت إلى عهد قريب مؤمنة ، وسيزيد من تأزيم الوضع إمكانية تحالف الحركة الوطنية لتحرير أزواد مع القاعدة في المغرب الإسلامي ، مع إمكانية الانفتاح على مجموعة بوكو حرام في شمال نيجيريا وكل التنظيمات التي تتوحد معهم في الهدف بما فيها جبهة البوليزاريو مما يؤهل منطقة الصحراء الكبرى لتكون برميل بارود قابل للانفجار في أية لحظة ، وتحويلها لأكبر تجمع للإرهابيين وتهريب الأسلحة والمخذرات..ويجعلها بالتالي مهددة في أية لحظة بتدخل أجنبي وحرب استباقية وسياسة تجفيف للمنابع ، رغم إعلان ثوار الأزواد أنهم حركة تحررية لا علاقة لهم بالقاعدة وهو ما تقوله البوليزاريو فهل تتعامل معهم الجزائر كما تتعامل مع البوليزاريو ...
إن اختلاط الأوراق في شمال مالي وجنوب الجزائر يؤهل المنطقة للدخول في نفق يصعب الخروج منه ما لم يتم الإسراع بإخراج إتحاد المغرب العربي للوجود وتكثيف جهود كل من الجزائر والمغرب لحل المسائل العالقة بينهما وعملهما سويا ومواجهة المشاكل القادمة من الساحل والمتمثلة في ضرورة محاربة الإرهاب والتهريب والجفاف والمجاعة والبطالة وضرورة توفير الأمن والاستقرار وإلا تحولت المنطقة إلى برميل بارود قد يزعزع شمال إفريقا وشرقها وغربها .