انها ملكية ثالثة، ملكية محمد السادس ، التي تأتي بعد الملكية الاولى التي امتدت من تأسيس دولة الادارسة حتى خضوع المغرب للحماية ،وتفرق دمه بين قبائل الاستعمار،تلتها ملكية ثانية شكل عمادها الملكان الراحلان محمد الخامس والحسن الثاني رحمهما الله،من خلال ثنائية التحرير والبناء،فالاول حرر المغرب،والثاني اكمل مسلسل التحرير،وانخرط خطوة خطوة، وببعد نظر، في عملية بناء مؤسسات الدولة،وتحقيق التنمية المستدامة،وذلك بتواز مع تطور الاصلاح الدستوري والسياسي . فكان البناء وصنوه الانفتاح رغم المطبات التي اعترضتهما ،وتم تجاوزها باقتدار قبل الرسو في ميناء التناوب التوافقي عام 1998.
صديق سوري،قال لي وهو منبهر بالجرأة الملكية، التي قلصت من سلطاتها واختصاصاتها لصالح مؤسسة رئيس الحكومة ومؤسسة البرلمان ، في عملية توازن هندسي مضبوط ومحبوك للسلطات المسيرة للدولة :" نحن في سوريا نتمنى لو يقدم الدكتور بشار للشعب السوري 10 في المائة فقط مما قدمه عاهل بلادكم ،انذاك ستخرج بلادنا من عنق الزجاجة !".
بيد ان الصديق السوري تدارك متسائلا :" لكن لماذا يصر البعض عندكم على التظاهر رغم كل التطور والتقدم الذي حملته صفحات الدستور الجديد ؟"،فقلت له :"هذا هو المغرب،صدره يتسع لكل ابنائه ،ويتحمل بصبر جنوح طموحاتهم الجامحة !"، قبل ان اكمل له قراءتي المتواضعة للوضع المغربي الراهن .
لم يلق الملك محمد السادس خطابا تلو الاخر، مثلما فعلت بعض القيادات العربية التي وجهت لشعوبهم خطبا فاقدة للبوصلة ، قبل ان يتخد قرار الوجهة الصحيحة التي ينبغي المضي اليها . فقد وجه الملك المتبصر الى شعبه خطابا يوم 9 مارس الماضي ، ودخل مباشرة في تنفيذ الاصلاحات الدستورية الواسعة التي قررها .كان خطابا تاريخيا ومفصليا في تاريخ المغرب الحديث،ناهيك عن كونه لم يتضمن رسائل مدججة ومبطنة بالتهديد،مثلما خلا من التسويف والوعد والوعيد".
واذا كان الخطاب الثاني للملك الذي وجهه لشعبه يوم 17 يونيو الجاري، قد حمل مفاجات دستورية كبرى وسارة لغالبية المغاربة نظرا لانه رفع سقف الاصلاحات عاليا،وطرح منظومة قيمية جديدة لممارسة الحكم والحكامة ، فان هناك من لم تشبع نهمه تلك الاصلاحات،ورفع بعضهم كلمة " لا للدستور "،في حين قرر اخرون مقاطعته.
بين " نعم " و" لا " و" المقاطعة " يكمن بون شاسع من التباين في المواقف لكن هذه المفردات معا تشكل جداول تصب جميعها في نهر الديمقراطية وقبول الاختلاف والاخر ، وبالتالي فان قول " لا " للدستور او مقاطعة التصويت عليه،يظل شيئا طبيعيا وعاديا في دولة تزداد يوما بعد اخر اكثر ايمانا بترسيخ الديمقراطية ،وتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير لمواطنيها ،وهذا ما لمسناه لاول مرة في التلفزيون الحكومي الذي استضاف بلا عقد انصار" لا " والمقاطعة ، غير ان ما يثير المخاوف والريبة والشك هو الاصرارالمنهجي لدى بعض الفئات على تنظيم المظاهرات لمواصلة الاحتجاج ،بينما الفيصل هو يوم اول يوليو المقبل، فمن خلاله فقط سيظهر للعيان هل غالبية المغاربة مع الدستور الجديد ام ضده .
ان الدعوة الى مواصلة التظاهر،وهي الشيء الوحيد الذي يتفق عليه عرابوها المتنافرون بالسليقة،بإعتبار انه لا تجمع بين العدليين ( جماعة العدل والاحسان شبه المحظورة)وجماعة حزب النهج الديمقراطي (لينيني – ماركسي) اية ايديولوجية سوى تفكير الاماني في أن تحول المظاهرات المتواترة الوضع في المغرب الى وضع شبيه بما حصل ويحصل في تونس ومصر واليمن وسوريا،لكنهم نسوا أوتناسوا انه شتان ما بين المغرب والوضع في تلك الدول.
وفي هذا السياق،اثارتني صورة تداولتها بعض الصحف المغربية في الايام القليلة الماضية لشباب ينتمون الى حركة 20 فبراير،وهم يحملون خلال مظاهرة جرى تنظيمها يوم الاحد الماضي بالدار البيضاء ، صورا لأرنستو تشي غيفارا،أيقونة اليسار العالمي وحركات التحرر في عقدي الخمسينات والستينيات من القرن الماضي.
ان حمل مثل هذه الصورة يبين الى أي درجة ما زال هؤلاء "في دار غفلون"، واسرى ماض ذهب مع الريح .فغيفارا ، في اميركا اللاتينية نفسها،اصبح مجرد فلكلور تزدان به اقمصة المراهقين والمراهقات .
ان الشباب من حقه ان يحيى حياة كريمة شريفة،ومطالبه في معظمها هي مطالب عادلة،تروم تحقيق مستقبل زاهر ورغيد ، لكن تحقيقها لم يعد في حاجة الى رفع صور غيفارا وتروتسكي ،وشخصيات اخرى من نفس الفصيلة .انه امر مؤسف ان يظل جيل " الفيس بوك " و" التويتر " رهين رموز الخمسينات والستينات ، ويكرر نفس أخطاء الاجيال التي سبقتهم،اجيال تمجد المهزوم،وتقدس الفاشل،وتحارب الناجح ،وتستغبي العاقل والحكيم ،وتساير العدميين والعابثين.
إن جمود المواقف ،التي لا تتحرك قيد انملة ، لدى الحالمين بحالة مشابهة لما وقع في ميدان التحرير بالقاهرة ربما يعطي اشارة سيئة لكثير من الانظمة التي ما زالت تقبض بيد من حديد على زمام السلطة في بلادها،فاي حاكم لن يذهب ، من الان ، بعيدا في الانفتاح على الكثير من مطالب شعبه ،ما دام هناك ، في دول غير مغلقة بستار حديدي، من يرفضون أي سقف مهما كان عاليا في سلم الاصلاح .
اننا في المغرب امام فرصة لا تعوض ،عنوانها " تواتر الاصلاح في ظل الحفاظ على الاستقرار"، وكما قلت في البداية نحن قاب قوسين او ادنى من ملكية برلمانية، ولا حاجة لنا لركوب بساط الريح، وحرق المراحل بدون روية ، فالغلة والثمار معروف موعد جنيها و قطفها ، فلا داعي للسرعة ، انها قاتلة .