حميد زيد مدير نشر الشروق
كان الله في عون الإخوان المسلمين في مصر وأصدقائهم في المغرب، ففي الوقت الذي يضع فيه وزير الاتصال مصطفى الخلفي منصبه في كفة وإشهارات اليانصيب في الكفة الأخرى، ويهددنا بأنه سيتخلى عنا إذا ما استمرت هذه الإعلانات في التلفزيون ويتركنا يتامى، يعمل إسلاميو مصر بجهد على حذف كل المشاهد التي يرون أنها خليعة في الأفلام القديمة، وهناك أخبار تناقلتها بعض الجرائد تقول إن جهاز الرقابة لديهم بدأ يشتغل بالفعل على فيلم"أبي فوق الشجرة" لتنقيته من الشوائب، تحقيقا لشعارات الخريف العربي.
شخصيا لا أعرف ما هو موقف حزب العدالة والتنمية عندنا من هذا الفيلم، لكنني حقيقة أشفق على أي جهاز رقابة يأخذ على عاتقه مهمة حذف القبل من فيلم أبي فوق الشجرة، وأتخيل أن إخوان مصر يمكنهم تحقيق الرخاء الاقتصادي وتوفير الشغل والقوت للمصريين، إلا أنهم سيعجزون لا محالة عن الحفاظ على ربع ذلك الشريط إن هم حذفوا منه ما يعتبرونه مخلا بالحياء.
لما كنت صغيرا، كنت أذهب إلى سينما "بوليو"، والتي تحولت الآن إلى خرابة في حي عين السبع بالبيضاء، الحي الذي فقد هو الآخر هويته وتحول إلى مسخ، في تلك القاعة كانوا يعرضون يوميا أبي فوق الشجرة واستمر ذلك لمدة طويلة بسبب الإقبال الكبير عليه، وأتذكر أني شاهدته عشرات المرات، وكانت تجذبني فعلا تلك القبل التي لا تعد ولا تحصى، وصور نادية لطفي وميرفت أمين بالمايوه، إلى أن حفظت الفيلم عن ظهر قلب، وصرت خبيرا فيه وأعرف متى ستأتي القبلة المقبلة، وكان أصدقائي الأشرار يدخلون في لعبة مسلية ويعدون عدد القبل، واحد، اثنان، ثلاثة...عشرة إلى ما لانهاية، ومنهم من كان يقوم بأفعال غريبة، أخجل أن أفشي سرها الآن، بأن يفتح سحاب بنطلونه، وينسى الفيلم وكل ما يدور حوله، متخيلا نفسه في الشاشة ينافس عبد الحليم حافظ على الجميلات في الشاطئ، يرقص معهن ويغني "دقوا الشماسي".
لهذا فأنا أتضامن مع جهاز الرقابة الإخواني الذي سيقوم بهذه المهمة الشاقة والمستحيلة، إذ لو اشتغل مقصهم على حذف كل القبل ومشاهد العناق والمداعبة والرقص التي كانت تسيل لعابنا، فلن يبقى في النهاية إلا عبد الحليم حافظ وسمير صبري وحدهما مثل غريقين قذفهما البحر إلى الشط، وسيبدوان كما لو أنهما يمثلان جزيرة الكنز وليس أبي فوق الشجرة.
من المفارقات أن العرب هم الأمة الوحيدة في العالم التي تتقدم إلى الخلف، ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت السينما المصرية متحررة ومنفتحة، ولم يكن أحد يعاني من مشكلة مع القبل أو الرقص، وكان ذلك مقبولا عند الناس، لأنهم كانوا على وعي بأنهم يدخلون إلى علبة أحلام وخيال يغادرونها وهم سعداء ومنتشون، وكان آباؤنا وأمهاتنا يذهبون إلى السينما، ويشاهدون شادية وناهد شريف وهند رستم وعمر الشريف وغيرهم من نجوم تلك المرحلة، قبل أن يحدث الغزو الخليجي الذي أفسد السينما العربية ومسخ كل أفلام تلك الفترة الذهبية في قنوات روتانا وإي آر تي، بعد أن سيطر بقوة المال واشترى كل التراث السينمائي المصري وفرض عليه ذوقه وأمراضه، ليأتي بعدهم المغول الجدد وبرنامجهم الوحيد هو نشر الظلام والخوف من الحياة ومن الإقبال عليها.