بعودة خاطفة إلى أدبيات الفكر السياسي العالمي ندرك أن العلمانية ليست تيارا فلسفيا ، أو توجها أيديولوجيا حديا و أرتودوكسيا ، بقدر ما أنها فعالية حضارية جاءت وليدة تضحيات جسام ، و صراعات و حروب دموية بين المؤسسة الكنسية الفيودالية الإقطاعية و طبقة المثقفين و السياسيين الأحرار ، الذين كانوا يطمحون إلى الفصل بين رجال الدين وبين الفضاء المدني و السياسي ، و استمرت هذه النزاعات قرونا في القارة العجوز ، لتسفر عن منجز معرفي إنساني يتخذ من الفكر النقدي منطلقا و من العقلانية منهجا في ملامسة قضايا المجتمع في كليته ، في مناخ ]تعددي ينافي النزوع نحو احتكار الحقيقة . إن العلمانية الأصيلة بحصر المعنى تستند إلى المعطى الفكري البشري الموسوم بالاختلافية البناءة و الرؤية النسبية إلى الكون و الحياة ، في أفق تجسيد كيان مجتمعي ممأسس يتناغم مع مستجدات الديناميكية الثقافية العالمية ، و يضمن الحرية و العدالة و المساواة و العيش الكريم .. لكل فئات الشعب دون تمييز أو مفاضلة أو إقصاء ! أما في العالم العربي فقد طرح شعار العلمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر للتعبير عن الرغبة في الوحدة و الاستقلال عن الدولة العثمانية ، وإقامة "أمة عربية" في سياق تاريخي نهضوي محموم . فهل يستبطن العلمانيون المغاربة هذا الإدراك "فائق الجودة" ، و يقرؤون واقعهم المحسوس و المختلف ، بمنهجية علمية بعيدا عن التخندق و التمترس وراء نزوعات ذاتوية غير سليمة ؟!
– معارك وهمية و.. مزيفة :
نصدر في هكذا مقالات عن وعي فعلي بجوهرية الحق في الاختلاف و التعبير الحر و المسؤول ، عن القضايا المشتركة و المواضيع ذات الصلة براهن المجتمعات العربية و المغاربية ، من منظور حيادي غير معني مطلقا بمناصرة تيار سياسي مخصوص أو انتماء أيديولوجي محدد . بيد أن نقطة الارتكاز التي نحتمي بها هي عقلنة الفاعلية السياسية و دمقرطة الحياة العامة و القرار الأخير يكون بيد الشعب ! و "سبب نزول" هذا الكلام يتمثل في الصحوة( العلمانية) التي انطلقت من أجل التعبير عن ذاتها في المملكة المغربية ، عبر مجموعة من الجمعيات و التيارات ( الحداثية) ، بعد الانتخابات التشريعية التي توجت بفوز الحزب الإسلامي المعتدل "العدالة و التنمية" . و يمكن لكل مراقب محايد للشأن السياسي المغربي أن يدرك أن بعض أدعياء العلمانية ، و بعد أن فشلوا في إقناع الكتلة الناخبة بالطرق الديمقراطية المتعارف عليها دوليا ، لجؤوا إلى وسائل غير شريفة ، تروم إثارة القلاقل عبر انتهاج سياسة التهييج و تحريف الحقائق ، و القفز على الواقع العنيد ؛ واقع العلمانية المبتورة ، فتارة يدعون إلى "جبهة لمقاومة النكوس السياسي و الحقوقي" ، و تارة أخرى يطالبون بتشكيل "مجموعة الديمقراطية و الحداثة" ، مصرين على خوض المعارك الوهمية و الانشغال بالموضوعات المزيفة ، التي لا تتطابق و احتياجات المغرب الفوقي و العميق ! و لعل أهم القضايا التي "انتبهوا" إليها مؤخرا هي معركة "إقرار الدستور بالتصريح بحرية المعتقد" ، و الدعوة إلى إدخال "تعديلات عميقة في المقررات الدراسية تستحضر مقاربات دينية متنورة" ! و السؤال المحرقي الذي أتركه لدعاة العلمنة المندفعة هو : كيف يمكن إحداث تغيير دستوري من هكذا حجم دون الدخول من بوابة الديمقراطية (المتعارف عليها دوليا ؟) .
– العقلانية و الديمقراطية .. لا غير
في الثمانينيات من القرن العشرين كتب فقيد العقلانية الدكتور محمد عابد الجابري مقالة مدوية تحت عنوان : بدلا من العلمانية .. الديمقراطية و العقلانية مبرهنا على زيف مفهوم العلمانية و تهافته ، و لا جدوائيته في ضوء معطيات الواقع العربي ، و في المقابل فإن هذا الأخير يستدعي نظاما ديمقراطيا عصريا يكفل حقوق الأقليات و العامة .. و ممارسة عقلانية للفعل السياسي ! و بالتالي فالعلمانية تدخل في سياق راهن المجتمعات الإسلامية ضمن ما يمكن نعته ب"لزوم ما لا يلزم". و لئن كان للكل الحق في الرأي و التعبير ، فإننا نلتمس من أصدقائنا العلمانيين الصادقين ، أن يقفوا وقفة تأمل ، لتقديم نقد ذاتي موضوعي ، رغبة في معرفة أسباب لا شعبية مواقفهم و دعواتهم ، و ألا يقتصروا على اللقاءات المغلقة داخل الصالونات المكيفة ، و البرامج التلفزية الممزوجة ، عليهم أن ينزلوا من برجهم العاجي ل"محاربة الفساد و المحسوبية و إنعاش الاقتصاد وإيجاد مناصب شغل العاطلين ، و محاربة الفقر و تنمية الوسط القروي ، و تقليص بؤر الاستبداد .." و أنا إذ أستشهد بكلام أحد غلاة العلمانيين المغاربة، فإنني أريد أن أقول من وراء ذلك أن ما يجمع بين أطياف المشهد السياسي الوطني كثير ، و أن شعبنا في انتظار برامج ملموسة و أوارش كبرى و متوسطة و صغرى ، و عمل جماعي يسنده شعور وطني مسؤول ، يغلب مصلحة الأمة على مصلحة الأفراد . لقد تعب المغاربة من التنظيرات الجامحة و مقارعة الطواحين الهوائية ، و الانشغال بالشكل على حساب الجوهر . إن الشعب المغربي لن يقبل بديلا عن الهوية الإسلامية والديمقراطية و الملكية الدستورية – البرلمانية و الوحدة الترابية ! فلننتقل إلى العمل الميداني بالتركيز على الأولويات : تفكيك بنية الفساد و الاستبداد ، وإقامة مرتكزات الحكامة الجيدة .. "و لكم واسع النظر!!" .
الأستاذ : الصادق بنعلال – باحث في قضايا الفكر و السياسة