د. حبيب عنون باحث في العلوم الاقتصادية
حفاظا مني على أمانة حقوق الفكرة، فإن ما سيتم تناوله في السطور الموالية هو محاولة لشرح وإيصال، إلى من يهمهم الأمر، لفكرة إحدى فتيات ثانوية المدينة عين السبع الدار البيضاء والتي لم تتجاوز عمرها 17 أو 18ربيعا. لقد كانت صيغة فكرتها أبلغ من عنوان المقال (لكونها عبرت عنها بعفوية وبالعامية المغربية ) لكني ارتأيت، بعد استئذانها، واحتراما لمشاعر القراء استبدال مصطلحها الأصلي بمصطلح "مجرمي المال العام". وحقيقة أن مصطلحها الأصلي كان كافيا في مضمونه ولا حاجة له للشرح لكونه كان تعبيرا عفويا يعكس مدى تشبث شباب مغرب اليوم بوطنيتهم وغيرتهم على بلدهم ومدى حقدهم على أولئك الماضين، غير مبالين، بالتلاعب بمصالح الشعب والاستمرار في استغفال واحتقار عقول شباب مغرب اليوم. شباب آمن بجعل التوجيهات السامية لضامن وحدة البلاد الضوء الأخضر بجعل نقطة بداية التغيير تتحول من الشارع صوب المؤسسات قصد تقويمها وحث مسؤوليها على احترام القسم ومن خلاله القطيعة التامة مع السلوكيات البائدة والتي بلدنا في غنى عن انعكاساتها. ربما أن الجدلية التاريخية قد مكنت الشباب المغربي من إفراز فاعل جديد يصطلح عليه ب"مؤسسة الشارع" مع كل ما يقتضيه بروز هذا الفاعل الجديد من تغيير في السلوكيات والخطابات العمومية.
فقد استوحت هذه الشابة فكرتها من برنامج "أخطر المجرمين" الذي تقدمه القناة الثانية المغربية 2م والذي تضاربت الرؤى حول الجدوى من عرضه وهو في الأصل اقتباس "غير قويم" لبرامج مماثلة يتم عرضها على القنوات الأجنبية. غير قويم من زاوية ضبابية مضمون الهدف المراد تبليغه حيث تم اختزال حلقات البرنامج في عرض الجريمة وفي إبراز مدى حرفية قوات الأمن المغربية الخاصة بمكافحة الجريمة في فك لغز هوية المجرم والحد من نشاطه من خلال إعادة تشخيص مراحل مجريات الجريمة. فإذا كانت فضاعة الجريمة هي التي تبقى عالقة في ذهن المشاهد عامة، فما يبقى متداولا لذا الشباب المغربي هي الكيفية التي تمت بها الجريمة وخصوصا تركيزه على أخطاء المجرم التي أدت إلى الايقاع به لتبقى محاولة التقليد واردة ذلك أن الشاب المراهق قد يعتقد أن تفادي الأخطاء تجنب الوقوع بين يدي الأمن والعدالة. ويعتبر هذا من أبرز السلبيات الأخلاقية والسلوكية التي يتم تمريرها عبر حلقات البرنامج والتي جعلت أغلب الأسر تعزف عن تتبع حلقات هذا البرنامج تجنبا للانعكاسات السلبية على تربية أبناءهم. ما هي القيمة المضافة المتوخاة من عرض هذا البرنامج؟ هل بشاعة بعض الجرائم؟ هل لكل جريمة جزاء؟ أعتقد أنه لو كانت كل حلقة من البرنامج يعقبها نقاش متعدد الرؤى للجريمة المعروضة لكان البرنامج ذا قيمة مضافة إيجابية حتى ولو تمت معالجة جريمة واحدة على عدة حلقات انطلاقا من الإعداد لها إلى تنفيذها مرورا عبر دور قوات الأمن ثم العدالة والنطق بالحكم. فغياب عرض هذه الحلقات هي التي جعلت من البرنامج يتخذ صبغة اقتباس "غير قويم".
هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، ولكون بلدنا تعرف انتقالا تدريجيا نحو مزيد من الشفافية وفق دستور 2011 المقر بضرورة تمكين المواطن من الإطلاع على المعلومة وإصرار الحكومة على مكافحة الفساد، فهل يمكن لوزير الاتصال إعطاء موافقته على إدراج برنامج تلفزي يحمل عنوان " أخطر مجرمي المال العام" لتكون سابقة جد إيجابية لا تدل فقط على تناغم الخطاب مع الفعل بل تبرز روح دستور 2011 التي تربط بين المسؤولية والمحاسبة وأن لا أحد بات يعلو على القانون؛ بل تدل كذلك على مدى رقي الجهاز السمعي البصري في المغرب. فالمعلومة قد تمر عبر الصحافة ولكنها إذا ما تم تمريرها ومناقشتها وتتبع حلقاتها عبر شاشة التلفاز ستكون أكثر مصداقية وذات وزن وأكثر شمولية وليتمكن المواطن المغربي من الإيمان أن المغرب يتغير وأن أشخاصا كانوا يعتقدون أنفسهم بالأمس القريب فوق القانون وهم اليوم ليسوا كذلك.
قد يكون هذا البرنامج غريبا (من ناحية فضح الوقائع ) على المغاربة وحتى على الجهاز السمعي البصري في المغرب ولكنه سيمكننا من عدم التحسر على ما نشاهده على شاشة قنوات الدول الديمقراطية حيث يجالس فيها ويساءل خلالها الصحفي أيها مسؤول مهما كانت حساسية المسؤولية التي تعهد إليه قصد حسن تدبيرها خاصة وأنه أدى القسم على ذلك.
وعوض متابعة جرائم القتل والاغتصاب والتهريب وما شابه ذلك، سيتمكن المواطن المغربي من متابعة جرائم تدبير المال العام والتلاعب في الصفقات العمومية والتملص من أداء الضرائب وتبييض الأموال... وقد تبرز للمواطن المغربي براعة ومهارة شخصيات أجادت تقمص دور النزاهة لينكشف لديه حقيقة تلك الشخصيات والسيناريوهات التي برعت في تجسيدها خلال قيامها بواجبها تحت القسم.
لماذا تمكن المواطن المغربي من مشاهدة كيف يتم اعتقال ومحاكمة المدير العام لصندوق النقد العالمي السابق؟ ولماذا يتابع كذلك مساءلة الرئيس الفرنسي السابق؟ ولماذا ولماذا؟ ألا نتخذ هذه الدول مثالا في الديمقراطية وموردا في التجارب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ؟ فلما لا نقتبس منها مثل هذه المبادرات التي تجعل من المواطن طرفا في المتابعة وطرفا في الحكم؟ كل الصحف تحدثت عن فضيحة ارتشاء قاض وفضيحة اعتقال المدير العام للمكتب الوطني للمطارات ومؤخرا حلقات التحقيق مع المدير العام لصندوق القرض العقاري والسياحي ... ولكن الاستغراب هو غياب مشاهدتها من طرف المواطن المغربي على شاشة التلفاز ومراحل مساءلة ومعرفة وجهة نظر هؤلاء المسؤولين حول ما ينسب إليهم ربما قد يكونوا مظلومين وربما قد يكونوا عكس ذلك بل ربما قد تبرز لنا معطيات مفاجئة وصادمة.
من الأكيد أن التنسيق أو المزج بين برنامج "مداولة" وبرنامج "أخطر المجرمين" وبرنامج "تحقيق" سيمكن المشرفين على الجهاز السمعي البصري في المغرب من الاعلان عن ميلاد برنامج تلفزي ينسجم وروح دستور 2011 المتمثلة في إقرار عدالة عملية تعادل بين المسؤولية والمحاسبة.
من الطبيعي أن يخلق هذا النوع من البرامج جدالا قويا داخل الأوساط السياسية ولكن لابد من البداية ولكل بداية ثمن. بل أكثر من ذلك أعتبر إخراج مثل هذه البرامج إلى الواقع هو بمثابة تحدي فعلي لتجسيد خطاب السيد بنكيران رئيس الحكومة المغربية وكذا مجموع وزراءه الساعون وراء محاربة الفساد. ذلك أن المواطن المغربي لم يعد يقتنع بالخطاب "الشفهي" الذي يتم تمريره من خلال الصحف بل على غرار الدول الديمقراطية الناعمة بأجواء سياسية نزيهة حيث يعطى للمواطن وزنه واعتباره، بات يطالب بالمتابعة التلفزية لهذه القضايا وطرحها للتداول كما يقال "حتى يطمئن قلبي " على بلدي. إذا كانت الأقلية من المواطنين هي من تتابع أخبار البلاد على صفحات بعض الجرائد، فالصورة عبر التلفاز ستمكن المواطن من التيقن بكون الوقائع ليست مجرد خطابات سياسية مرحلية تمويهية ولكنها واقع ثابت كما يقال بالصوت والصورة مع العلم أن الكشف عن مثل هذه القضايا باتت دستورية ويبقى لحكومة السيد بنكيران واسع النظر والصلاحيات في التنزيل الأمثل لمقتضيات دستور 2011. أليس للمواطن المغربي الحق في جني ثمار ما زرعه من خلال تصويته على تعديل الدستور؟ أ ما حان للمواطن المغربي أن يكف عن الغيرة مما ينعم به مواطن الدول الديمقراطية؟ أ ما حان لبعض المسؤولين المغاربة من استهبال واستغفال المواطن المغربي؟ أ ما حان لهؤلاء المسؤولين أن يرقوا إلى مستوى القسم الذي يؤذونه والرقي إلى مستوى مسؤولي الدول الديمقراطية؟
أكيد أن وزر التغيير سيكون بالغا بالنسبة للبعض، ولكن البلد واستقرارها ونموها أولى.