يفرك الجنرال عينيه بمجرد ما يستيقظ من النوم.. يتوضأ.. يصلي الفريضة.. ويرفع كفيه نحو السماء ويدعو خالقه أن ينصر العلمانية ويمكن لها في الأرض بما يرضي الله..
ثم يتوجه نحو المرآة فيخرج لسانه ويشحذه ، ويهمس في نفسه وابتسامة الرضى تعلو محياه "الله يعميها لشي حد هاد النهار".. ثم يجلس الجنرال أمام حاسوبه، فيطلع على بريده الإلكتروني، ولديه أكثر من واحد أكيد، بحثا عن دعوة لخوض معركة هنا، أو مطلب بنزال هناك..
ثم بعد أن يطمئن قلبه إلى أن الطلب على خدماته ما يزال قائما، وما تزال بضاعته غير كاسدة بالمطلق، يملأ بطنه ويعتمر بقبعة الحرب، ويلبس لابته، ثم يركب حصانه الأبجر وينطلق.. وفي ذهنه استرجاع أمجاد كسيلة قاتل "الغزاة" من الصحابة وكبار التابعين.. ها هو في الناظور تارة، وتارة أخرى هو في الرباط، وإذا ضاقت الجغرافيا ذرعا به، تجده ممددا وهو على صهوة جواده على صفحات الجرائد والمجلات..
وبات المرء لا يولي وجهه شطر أي شيء إلا ووجد بطل العلمانية قبالة عينيه.. حتى اليوتيوب الذي كان الناس يفرون إليه بعيدا عن المتفذلكين، أبى الجنرال إلا أن يسجل حضوره.. كذلك الأمر في الفضائيات ومواقع الإنترنت... ودعوته واحدة لا تتغير: هل من مبارز؟..
كل معركة لدى الجنرال هي أم المعارك.. ولا يهم ما ما قد يعتريها من تهافت أو تناقضات، كما لا تهمه النتائج، والمثل السائر يقول: قل كلمتك وامش.. والجنرال لا يحسن إلا ذلك..
عند الجنرال الديمقراطية ضرورة حيوية لأي مجتمع، لكنها إذا أتت بالإسلاميين فهي بنت كلب وبنت ستين حمار على رأي صديقي المصري..
وديمقراطية الأغلبية إذا كانت تمارس على شاكلة ما هو جار به العمل داخل الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بفضل سياسة النهج الديمقراطي، فهي محبوبة ومطلوبة، لكنها إن سمحت بسيطرة خصوم الجنرال، فإن الأغلبية هي شرعنة لدكتاتورية الأغلبية..
بالنسبة للجنرال، الدفاع عن الأمازيغية في بعض الأحيان هو دفاع عن فئة بشرية معينة عانت من ظلم تاريخي ممنهج، لكن في أحيان يشدد على أنه يدافع عن لغة وثقافة وفكر وليس عن عرق.. فلا أحد يستطيع أن يبرهن أنه أمازيغي أو عربي نقي الدم.. وقد يكون الجنرال نفسه منحدرا من أصول قرشية، أو تغلبية أو كليبية (نسبة إلى كليب بن ربيعة بن وائل)..
على العموم هو حينما يصرح أن الأمازيغية ثقافة وقيم ومبادئ وفكر، لا أظن أحدا يخالفه في ذلك، لذلك ـ وبعد أن صنع لنفسه اسما على حساب القضية ـ هو دائما ماضوي في انتقاداته.. على الأقل لفترة ما قبل إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية "اللي كلينا معه طريف ديال الخبز، واللي غش يبرك له الملح في الركابي"..
والاجتهاد في الشرع الإسلامي إذا كان سيأتي بقرآن جديد، ومنظومة حياة جديدة فأوكي.. لا مانع، لكن إن أصر على الاحتفاظ بالإطار العام الذي جاء به آخر الأنبياء، فلا.. وهو ليس اجتهادا وإنما سطحية وإصرار على الارتباط بالجهل والتخلف والبغي..
الجنرال، لا يستحي أن يقول ويجهر في الناس في إحدى معاركه، بأن فرنسا هي التي حررت العبيد في المغرب.. وفرنسا هي التي حررت المرأة المغربية وأدخلتها إلى المدارس..
وهي رسالة تحية ووفاء واحترام لا مثيل لها لكل أولئك الذي دفعوا حياتهم ثمنا لكي يملأ الجنرال بطنه ، وينطلق فاغرا فاه دفاعا عن سفاحين قتلة، ما يزالون يرفضون الاعتذار عن جرائمهم..
وهذا يعني كذلك أن سوق النخاسة كان ما يزال مستمرا في أسواق فاس ووجدة والرباط والدار البيضاء حتى تكرمت فرنسا ـ الله يجازيها بخير ـ واحتلت المغرب منذ بداية القرن العشرين لتحرر العبيد، ويصبح الجنرال ليوطي أبراهام لينكولن زمانه..
والنساء المغربيات كشف الجنرال أنهن ناكرات للجميل، حيث إنهن شاركن وبقوة في مقاومة ومحاربة فرنسا التي حررتهن من العبودية، وأدخلتهن المدارس، ولا عزاء مثلا للشهيدة يطو بنت موحى أوحمو الزياني، ولا للنساء اللواتي قتلن واغتصبن وعذبن في سبيل الحرية.. لا عزاء لهن، كان عليهن أن يقبعن في بيوتهن، أو مدارسهن، ويتركن فرنسا وشأنها.. ولا ينخرطن في صفوف الجهاد..
الجنرال يعرف أنه يزور التاريخ، ويستغل أنصاف الوقائع لإطلاق التعميمات.. وهو متأكد أن لا أحد سيراجعه فيما يقول لأن الناس لا تقرأ.. ولو إلى حين..
المهم الله يسامح، اللسان ما فيه عظم، وعفا الله عما سلف، ومن خصائص العلمانيين أن بعضهم أولياء بعض.. وفرنسا ـ التي يشار إليها أنها رمز العلمانية في أوروبا ـ تستحق من الجنرال العلماني أن يدافع عنها بالنهش في عرض الشهداء والشهيدات.. لا مانع.
الجنرال تراه يتعمق في تاريخ المسلمين البعيد والقريب على حد سواء، ومتى عثر على فتوى شاذة، أو رأي أكثر شذوذا إلا ووضعه في كنانته، حتى يرمي به خصوم التنوير في المعارك التي لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد..ويجعله كل الإسلام...
لكن أن ينظر إلى علماء المغرب مثلا، ومنطقة سوس تحديدا، إلى أولئك الذين طوروا الفقه المالكي وأتوا باجتهادات لا مثيل لها تعد مدرسة فقهية قائمة بذاتها لصالح الإنسان والمرأة بشكل خاص، فهؤلاء لا طبعا.. هؤلاء يفشلون معارك الجنرال.. الجنرال حريص على اختيار معاركه بدقة، وعلى اختيار أسلحته.. التاريخ كله بصفائه وجلائه لا يحقق رغبات الجنرال..
وفي معاركه تلك التي لا تنتهي، يصر الجنرال على أن يميز تمييزا دقيقا بين الإسلام كتابا وسنة، وبين "بعض" العلماء، و"بعض" الفقهاء"، و"بعض" الدعاة.. فهو يعلم أكثر من غيره أن المغاربة مشدودون لقرآنهم وسنة نبيهم، لذلك لا يود أن يخوض هذه المعركة بشكل مباشر وصريح، بل يختفي ـ مثلما يفعل العلمانيون ـ خلف هذا "التبعيض" وخلف الكلمات المنمقة، من مثل "الديمقراطية الحداثية" و"الاجتهاد الصريح" و"مواكبة العصر الذي نعيشه"... على الأقل حتى يخرج عظمه سالما من سلسلة ندواته وغزواته..
لكن ألسنة السوء ترد وتقول: طيب إذا كانت مشكلة الجنرال هي دائما مع هؤلاء "البعض" الذين يسيؤون إلى الإسلام بفتاوى شاذة وآراء متخلفة.. فلماذا لا يتحول هو نفسه إلى شيخ وقور يتأمل في آيات القرآن وما صح من أحاديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ويطهر الدين من الشوائب التي لحقت به في عصور الجهل والتخلف؟ على الأقل يؤكد للناس بالملموس أنه هو فعلا ضد "البعض" من العلماء والفقهاء والدعاة، وليس ضد القرآن نفسه..
أستغفر الله، أعلم أن مثل هذه الأفكار التي يروجها الخصوم تجعل شعيرات الجنرال تنتفش، ووجهه يحمر وينتفخ، ويوشك أن ينفجر.. ولديه مخزون استراتيجي من الصراخ الذي قد يمزق حنجرته يوما وهو يعلنها في وجه العالم: لقد كفرني الجهلة والأغبياء لمجرد أنني عبرت عن رأيي.
وأنا أعلنها من هنا أنني متضامن مسبقا مع الجنرال، وأؤكد أنه ولي من أولياء الله الصالحين، ومهدي هذا العصر، والإمام الغائب، والمرشح للفوز بجائزة الشيخ نوبل في الديمقراطية واحترام الآخر والدفاع عن راية الإسلام..
وعلى ذكر الديمقراطية، فالجنرال يحاول تجاوز المأزق الحقيقي الذي يجد نفسه فيه، بتحويل معناها إلى مفهوم هلامي لا تستطيع أن تمسك به، وبالمناسبة هذا شأنه في جل المصطلحات.. ما إن تحصره في زاوية معينة حتى يطير ويحلق في الهواء.. المهم هو أن تنتهي المعركة بأقل قدر ممكن من الخسائر..
فالديمقراطية إن جاءت بما يهوى الخاطر أوووووكي.. لكن إن جاءت ببنكيران أو بعقبة ابن نافع الفهري أو بالمختار السوسي، أو حتى بخالد "الشفياني"، فالجنرال يلجأ مباشرة إلى مخبئه، ويبحث في سراديب أفكاره عن الكلمات المنمقة التي وإن لم تنجح في نسف مفهوم الديمقراطية، فهي على الأقل تشوش عليه.. مستعينا في ذلك بخبرات الحاجة البتول.. ومن معاني البتول في اللغة العربية الفتاة العذراء.. للأسف.. التزوير مس كل شيء..
مثله في ذلك مثل "الجنرال دوكور ديتيحاد" ، الذي تقدم القافلة هو الآخر ليصدع بما أمر به، ويفجرها في وجه الأحبة والأعداء.. لعنة الله على الديمقراطية التي جاءت لنا بالنازيين.. وهو في ذلك يلمح إلى ديمقراطية جمهورية فيمار التي سمحت لأدولف هتلر بالسيطرة على الحكم.. قبل أن ينفي أنه قال ذلك، ويتهم "أخبار اليوم بالكذب"...
لكن إذا صدقنا ما جاء صحيفة الزميل بوعشرين، فهذا يعني أن بنكيران هو هتلر، والخلفي هو غوبلز، والحكومة ستعمل على سفك دم المعارضة في ليلة "سكاكين طويلة"، وبعد أن يستتب الوضع لإخوان العثماني، سيعلنوها حربا عالمية ثالثة..
الغريب أن هتلر ـ وليس صدفة ـ لم يكن زعيما للعدالة والتنمية الألماني، بل كان زعيما للحزب الاشتراكي، وبالضبط، حزب العمال الألماني الاشتراكي الوطني..
والأغرب، أنه هو الذي يروى عنه أنه قال "إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر، وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك"..
طبعا هذا الكلام يؤكد ما تذهب إليه ألسنة السوء من أن الاتحاد الاشتراكي.. هذا الحزب العريق الذي آمن به كثير من المغاربة في أوقات شدة ورخاء.. صار رهينة في يد قلة متنفذة، ولاؤها ليس بالتأكيد لبنبركة أو بنجلون.. وبالمناسبة، ما يضحك أن الاتحاديين انتقدوا مؤخرا إصرار الرميد على قوله إن ملف بنبركة ليس أولوية.. زعما المهدي مسكين الله يرحمه، كان قاب قوسين أو أدنى أن يبعث من قبره خلال حكم الرفاق..
على العموم اسألوا البشير نجله وستعرفون.. ولقد التقيت به شخصيا وسط العاصمة وعرفت أشياء كثيرة عن "وفاء" الرفاق الأعزاء.. آه يا بلد..
السؤال المحير، هو لماذا كل هذا التجني على الديمقراطية؟.. المفاجأة أن الجواب جاءني على لسان سائق تاكسي.. في العشرينيات من عمره، وجه بشوش ونظراته توحي إليك أنه إنسان طموح، وأن عربة التاكسي لا تعدو أن تكون مرحلة عابرة في حياته.. بادرني بقوله "أنا لا يهمني لا العدالة والتنمية، ولا الاتحاد ولا داك المصيبة ديال البام، أنا اللي كيهمني هو أن يصلح أمر هذه البلاد، ويجد المفسد نفسه في السجن وليس داخل سيارات المرسيدس والبي إم.. ويجد الشباب عملا محترما..."، واستمر يسرد أفكاره حتى أقنعني بأن أشهد أمام الله بأنني على مذهبه.. ولتسقط أي حكومة لا تخدم الشعب..
سائق التاكسي لا يريد لأحد أن يختطف المغرب، بل يريد للمغرب أن يعيش حرا ديمقراطيا خاليا من المفسدين.. ولا يريد للبعض أن يختطف النقاش من التنمية بعناوينها المختلفة، إلى مناقشات تافهة تشكل غطاء "حداثيا" لمفسدي القرن 21..
على العموم، عندي اقتراح للجنرال، آمل أن يحظى بعنايته.. وله الفضل فيه إذ وأنا أقرأ ما كتبه ذات يوم من عام 2007 في انتقاد ما ورد في مقال للدكتور أحمد الريسوني حول الحدود الشرعية، حيث اختتم المقال بقوله "في حالة ما إذا أصرّوا على تقسيم الناس إلى "فسطاط الكفر" و "فسطاط الإيمان"، فسنكون في هذه الحالة ملزمين بأن نقول لهم : لكم دينكم، اعملوا به فيما بينكم حتى نرى أثره عليكم".. خطرت في بالي هذه هي الفكرة..
لماذا لا يدعي النبوة، ويدعو إلى دين جديد ويريح البلاد والعباد؟..
دين له كتابه الخاص، ولغته المناسبة.. دنيا بلا آخرة.. حياة بلا موت.. ليس فيه حساب أو عقاب.. وينطلق ليعيد أمجاد كسيلة من جديد.. وأمجاد أمراء الدم والقهر والظلم..
ahmedhammouch@gmail.com